يوم بعد يوم يتأكد ما ذهبنا إليه من قبل من أن أحداث يناير 2011 و30 يونية 2013 أقرب إلى الإنقلاب منه إلى الثورة بالمعنى الاصطلاحي، ذلك أن الثوار الذين رفعوا شعار العدالة الاجتماعية نهار 25 يناير ظلوا يرفعونه حتى اليوم، وهذا معناه أن ما حدث في الثورتين كان إسقاط رأس النظام وبقاء فلسفة النظام كما هي بوجوه جديدة، وظلت العدالة الاجتماعية غائبة عن سياسات الحكومات المتتالية. ثم خطا الثوار خطوة أخرى عندما بدأوا في المطالبة بإعادة شركات القطاع العام ومصانعه لإدارة الدولة والتوقف نهائيا عن عمليات تصفيته التي كانت قد بدأت منذ 1985 ورفعوا قضايا قانونية أمام المحاكم العامة لإثبات بطلان تصفية القطاع العام واستعادته. والحال كذلك وفي أول عيد للعمال بعد "ثورة 30 يونية" ألقى الرئيس عدلي منصور خطابا في احتفالية بهذه المناسبة (يوم 30 أبريل)، وكانت المفاجأة قوله: إننا لن نبيع القطاع العام بأبخس الأثمان مثلما حدث في الماضي .."، وكأن المشكلة كانت في بيع هذا القطاع بسعر غير مناسب، مع أن بيعه ترتبت عليه مشكلات اجتماعية لا تزال قائمة. فأولا تم التخلص من عدد من عمال الشركة المراد بيعها عن طريق ابتداع فكرة "المعاش المبكر"، لا لشيء سوى أن المشتري يريد ضمان الأرباح وهذا لا يتأتى إلا بتقليل النفقات التي تأتي الأجور في مقدمتها، ومن ثم نشأت مشكلة البطالة. وانتهى الأمر بفقدان الدولة سيطرتها على توجيه الاقتصاد الذي يساعد على اتباع سياسات التنمية والعدالة الاجتماعية، ومن ثم استقلال القرار السياسي. وهذا "التصريح" الذي قد يكون رسالة مبطنة للرئيس القادم المنتخب، يؤكد الدور الخارجي، الأمريكي في الغالب، فيما انتهت إليه ثورات "الربيع العربي"، إذ يبدو واضحا أن هناك نصيحة ما أو توجيه ما بعدم الاقتراب من نظام اقتصاد السوق (الرأسمالية) وترك الأحوال الاقتصادية لآلية العرض والطلب دون تدخل من الدولة مما يعني توغل أصحاب رأس المال أكثر وأكثر. ولعلنا نتذكر أنه عندما طلبت مصر قرضا من صندوق النقد الدولي كان الشرط أن يسير الاقتصاد في الطريق الصحيح، وأول خطوة في هذا الطريق رفع الدعم عن السلع الاستهلاكية؟!. ثم كيف يستقيم هذا التصريح مع نص المادتين 8-9 من الدستور بشأن التزام الدولة بتحقيق العدالة الاجتماعية وتحقيق تكافؤ الفرص ..؟! وفي الحقيقة أن الدول الصناعية الكبرى منذ القرن التاسع عشر كانت بحاجة إلى السوق الخارجية لتصريف المنتجات الفائضة عن الاستهلاك المحلي، ولم يكن أمامها إلا بلاد العالم الثالث لتكون أسواقا لها، وحتى يتم هذا لابد من منع هذه البلاد من امتلاك أسباب التكنولوجيا. فلما نجح محمد علي باشا في مصر في إقامة صناعة وطنية واستغنى عن الاستيراد أغلق السوق المصرية أمام المنتجات الخارجية ومن هنا عقدت إنجلترا معاهدة مع السلطان العثماني (معاهدة بالطه ليمان في أغسطس 1838) لفتح السوق المصرية أمام المنتجات الإنجليزية، فلما رفض محمد علي أجبروه على ذلك بعد عامين بمقتضى معاهدة لندن 1840، فاصبحت مصر سوقا وتوقفت عن الانتاج المحلي، وزادت التبعية بإحتلال إنجلترا لمصر (1882). ولما قام عبد الناصر بإحياء مشروع القوة الاقتصادية الذاتية ببناء القطاع العام والاستغناء عن الاستيراد تدريجيا انزعجت دول الغرب ولم يهدأوا إلا بعد وفاته. فلما جاء السادات امتثل للنصيحة الأمريكية في 19 يونية 1974 بأن أمريكا لا يمكن أن تساعد الاقتصاد المصري طالما بقي تحت القطاع العام (حديث عبد العزيز حجازي وزير المالية آنذاك مع وليم سايمونز وزير الخزانة الأمريكي)، وأن المطلوب هو تصفية القطاع العام مستخدما كلمة "تحرير الاقتصاد" Liberalization ؟؟. وبدأت مرحلة التصفية في عام 1985 ورفع الدعم عن كافة مستلزمات الانتاج "لتحرير الاقتصاد" فارتفعت الأسعار، ومن هنا طالب الثوار بالعدالة الاجتماعية.. فهل نحن أمام إعادة لدورة التاريخ مرة أخرى حتى نثبت للدنيا أننا لا نتعلم من التاريخ ..؟.