كان اللورد هنري بالمرستون وزير خارجية بريطانيا من (1830 حتى 1841 ) وأحد أبرز من لعبوا دورًا في تقديم الدعم العملي واللوجيستي لإقامة الكيان الصهيوني فوق الأراضي الفلسطينية العربية، يعي مصالح دولته الإستعمارية ويعرف السبل لهدم أي دولة تنمو على الصعيد العالمي مما يرشحها للعب دور الخصم لأطماع دولته التوسعية، فكان له النصيب الأكبر في إيقاف توسعات محمد علي وإرغامه على توقيع معاهدة لندن عام 1840، وكانت غايته من دعم الإمبراطورية العثمانية في وجه الجيش المصري، بعد أن كانت بلاده كما ألمانياوفرنسا قد قدمت الدعم بعضه تسليحي ل"محمد علي" في بدية المعركة ما بين عامي 1810م و1825م، هي الإبقاء على القوتين في حالة عدم إكتمال، وكان له ما أراد حيث انتهينا إلي إمبراطورية عثمانية عاجزة ضعيفة تحتاج لنجدة الغرب وهذا ما حدث بالفعل، حيث أُبرمت العديد من مُعاهدات الدفاع المشترك بين الدول الأوروبية من جهة والعثمانيين من جهه أخرى للتصدي للهجوم المصري، وتم تحجيم طموحات محمد علي وإرغامه على التوقف في توسعاته، فالرجل الأبيض لا يحتمل دولة "واعدة" لها أحلام و تطلعات مثل مصر، ومن ثم رفضت الدول الأوروبية الإعتراف بمصر كدولة مستقلة عن الإمبراطورية العثمانية، حتى أن فرنسا التي كانت مُعارضه لإتخاذ أي إجراء عسكري تجاه المشروع المصري إنحازت في نهاية المطاف لمصلحتها في الحفاظ على هيمنة النظام الأوروبي على العالم. ونحن هنا لا نتحدث عن الجانب الأخلاقي لتلك المعارك، ولا على البسطاء الذين تدهسهم سنابك الخيل فيها، ولكننا نتحدث عن لعبة المصالح، وسعي كل طرف بالحيلة والدهاء أولًا، وبالسلاح ثانيًا، لتحقيق أهدافه.. وهذا ما يسوقنا إلي التعرض لفصل آخر من مساعي "بالمرستون" الشيطانية لفرض هيمنة بلاده على العالم من خلال ما أسماه "تشريعات بالمرستون" – وما سمعناه في أوائل القرن الحادي والعشرين على لسان وزيرة الخارجية الأمريكية "كوندليزا رايس" وما تتبعه السياسة الأمريكية حتى اليوم من دعم سبل إشاعة الفوضى في الدول العربية ماهو إلا تطوير حديث لهذه التشريعات -، حيث قال بالمرستون "من الضرروي أن نقوم كبريطانيين بتشجيع "الفوضويين" المعارضين لأنظمة الحكم فى بلدان مخالفة لسياساتنا حتى لو بداخل أوروبا نفسها – كما جرى مع روسيا وإيطاليا وفرنسا – فذلك يُعد مكسبا لبلادنا إذا أحسنّا توظيف عناصر التحريض لتحقيق مصالح بريطانيا العظمى ". ولعل هذا يكشف لنا تشابه جوهر الأداء الإستعماري الغربي، وأنه بئر واحد تنهل منه الإمبراطوريات الغربية واحدة تلو الأخرى، حتى لو اختلفت المسميّات والشعارات، ومما شهدناه ببلدان العالم العربي في السنوات الأخيرة من تقسيم هذه وإستنزاف جيش تلك وإخراج أخرى من دائرة المستقبل لعقود، يثبت أن "الغرب" أجاد الإستفادة من الشجرة التي غرس فسيلتها "بالمرستون" ونجح في تطوير ثمارها، حيث وظّف الأحداث على اختلاف المشاركين في صنعها بين متآمر متعمد الإفساد وبين عفوّي تقوده عاطفته، إلي صالحه، ونجح من خلال إزكاء نيران "الفوضى" و"الإحتراب الداخلي" في تقويض أركان الدول وهدم مؤسساتها وتقسيمها على أسس طائفية وعرقية وإثنية. وفي تجربتنا العربية الحديثة، صار واضحًا أن المؤامرة أعدّت بحرفية شديدة، وكانت أول علامات نجاحها هي قدرة القائمين عليها في إقناع الكثيرين بعدم وجودها وهذا ما يجعلهم صيدًا سهلا.. كما أنها مهدت لنفسها عبر مراحل عديدة الأولى حين أتخذت من شعار "الديمقراطية وحقوق الإنسان" عباءة، ونجحت في جذب عدد من الناشطين وقدمت لهم برامج تدريبية مكثفة جعلت من الإستقلال الوطني قضية هامشية وربما مغيبة، وحوّلتهم من خلال منظماتهم ومراكزهم الحقوقية إلي جزء من نظام عالمي جديد يكونون فيه الأداة والشوكة التي تتعاظم مع الوقت وتُغرز في جسد الوطن فتسيل دما كثيرا.. ما ساعد تلك المنظمات على النمو والتفشي هو رخاوة الأنظمة الحاكمة وعدم التصدي للاختراق الغربي إما تخوفًا من الدول الغربية أو لعدم الإحساس بخطورة ما يجري أو الإثنين معًا، المرحلة الثانية جاءت بتوظيف الطاقة الحماسية الشبابية "المهدرة" في أعمال الفوضى والعنف، وربما استفاض كثيرون في التعرض للمرحلة الأولى غير أن قليلين هم من أشاروا إلي هذا الجانب النفسي الخطير، فالملل ونمطية الحياة ورتابة الأحداث، دوافع "نفسية"، ليس من سبيل لتجاهل وضعها ضمن عشرات من الدوافع الأخرى وراء خروج نسبة متوسطة من الشباب ما بين 16 وحتى 26 عام في المظاهرات، ويدفعهم "اللاوعي" لمباركة تحولها إلي أعمال عنف.. فكل هذا يزيد من فرص "كسر الملل" الذي يعانون منه. وبناء على المرحلتين السابقتين الأولى الإختراق، والثانية إشعال النار في الحطب الجاهز للإشتعال.. كانت الفوضى وأدت دورها كما قلنا سابقا في المؤامرة، والبحث عن سبب العطب ليس سوى خطوة أولى في سبيل التوصل للعلاج والذي نراه محصورًا في أمرين: الأول، تجريم التمويل الأجنبي للمنظمات الحقوقية وحصاره، والثاني، توظيف طاقة الشباب في عمل ثوري وبنّاء- ثوري بمعنى حركي وحيوي وديناميكي، وبنّاء يصب في صالح الجماعة الوطنية – وهذه المعادلة الرامية لإيجاد قنوات لتفريغ الطاقة الحماسية يحتاج لجهد حقيقي من جانب المتخصصين، ولا نرى – كدليل- خير من تجربة الخمسينيات والستينيات بمشاريعها القومية ومعاركها التحررية والإطار الثوري الحماسي الذي صاحبها، مشيرين إلي أن الخطاب الذي يُقام على أساس "الحاجة لالتقاط الأنفاس وأهمية الإستقرار" لن تجدي نفعًا -عامًا- مع الفئة الشبابية التي استشعرت مع "التظاهر" وأحيانًا مخاطره، مغامرة تحقق لهم جانبًا كبيرًا من المتعة.