قررتُ أن أسأله من أين لك كل هذه الرهافة؟ فرهافته، التي نقلها إليَّ بإخلاص وأبوة، ترهقنى حين أحبس دموعى كى لا تنزل مثل ماء يقطر من صنبور غير محكم الإغلاق. قبل أن أسأله هذا السؤال، كنت أرقبه، دائما، وهو يلمع مكتبه وكرسيه ومكتبته حيث يحفظ كتب أصدقائه فى ركن خاص. لما يشعر بالوحدة، في وجودنا والكاسيت والتلفاز والكمبيوتر والفيديو، يتركنا. يغلق باب الحجرة بمفتاح يقول إنه ذهبى. يجلس ، يفتح الكتب ، يقرأ الإهداءات؛ يشم رائحة الخطوط، ويبكى. يحكى لي فتدمع عينه، وأبكى . في الشرفة، وفى عصر اليوم الذي يسافر فيه الذي كان صغيراً، حاملاً حقيبة ثقيلة على ظهره، لا يسحب الكرسيَّ من شمس حامية. يجلس فى دائرة ساخنة، مضيئاً. غير أن لون نظارته يصير أغمق وأغمق، فلا أرى عينيه؛ إلا أننى أرى دموعه تجرى على خديه، فيزيحها بإبهامه، ويبتسم لى، كأننى لم أره، ويغنى أغنية بها غربة وشجن وحنين يشج قلب تنين. هل كان لابد أن تكون رهيفا هكذا ؟؛ أن تكون حنونا هكذا ؟؛ أن تكون رقيقا هكذا ؟. ولماذا علمتنى كل هذه الأشياء ؟ كم سيشق علىّ، فيما بعد، أن أعرف ناسا يفارقوننى، أو يكون علىّ أن أفارقهم؛ وكم سيشق علىَّ تغيير قلمي، حين ينفد حبره، وكراستي، بعد أن تحمل كلمات أحبها وأخرى كتبتها تحت وطأة أشياء أقوى منى؛ وكم سيشق علىّ ألاَّ تفارقنى صورة خاتم ذهبي، كان لي، غاص في رمل أصفر، و ربما يأخذه البحر، ذات شتاءٍ، حين يغمر الرمل والكورنيش والشارع؛ وأنا هنا بعيدة عن الذي ضاع منِّى؛ وكم سيشق علىّ أن أنظر فى عينك، ولا أستطيع أن أحكى لك عنه، بعينيه الواسعتين و اللتين رمقنى بهما طويلا ، وأشياء أخرى صغيرة كثيرة، هائلة، أعرف أننى سأقصها عليك ذات يوم. وحين تهم عينى أن تدمعَ، ستربت علىّ وتخبرنى، ودموعك جارية، بأننى صغيرةٌ، و الحياةُ واسعةٌ، وعلىّ أن أكون قوية. سأتمنى وقتها أن أسألك: ومن أين القوة لى ؟ فتحسب أننى أراك ضعيفا، مع أنني أراك قويا كالماء، الوحيد القادر على هزيمة النار. أخاف عليك أن تذوب لكن علىّ أن أسألك : كيف صرت رهيفا ؟ أعرف أن هذا يتطلب لحظة تجلٍ، ودموعاً، وذلك الفرح الذى ينتابك حين تبدأ فى الحكى . سأجلس قبالتك، في بقعة شمس شتوية، أو في بيت بعيد تراه أنت بعينيك أنت الرهيفتين، بالطبع، فريدا . لما سألتك لم أعرف هل باغتُّكَ بالسؤال، أم سألته بخبثٍ، أم بدلالي عليك. اصطحبتني فى يدك الباردة. خطونا خطوة واحدة، وتلك كانت كافية حتى نذهب لمكان بعيد، نجلس بمقهى فاخر، نطل على شارعٍ واسعٍ، و كورنيش، وبحرٍ، وسماء بلا نهاية . المقهى خال إلاَّ منَّا. طلبتَ الشايَ، ولىَ النيسكافيه. قلتَ : انظري هناك . لم أر أيَّ شئ ملون. كل شئ أبيض وأسود. الشارع والعربات والكورنيش والبحر والسماء وولد فى يد أبيه. الولد يرتدى بنطالاً وقميصا وصندلا. قلتَ أنه بنى ، الأب يرتدى صد يريا وجلبابا. قلتَ أنه أسود وطربوشا. نبهتنى أنه كالجديد دائما، ونظارة. قلتَ أنه لن يخلعها حتى يكف بصره. الأب يمشى حافظا سكته؛ والولد يعشق الطير والشمس والبحر والطائرة الو رقية التي تطير دائما بين الشمس والبحر، فيتفرج طول الطريق . لاحظتُ أن الأب يبدو متعجلا إلا أنه يساير خطوه. قلتَ أن الولد كان صغيرا ولم يكتشف أباه بعد؛ دائما يراه وقورا قويا مسموع الكلمة. وأضفتَ أن الولد كان يرهبه ويحبه مثلما يرهب البحر ويحبه. سكت أبى وسكتُّ، فسمعنا صوتاً. شئٌ ما رنَّ رنينا مكتوما. قال الولد بأدب وحرج ورهبة لأبيه : أنه زر قميصى . سقط فانفتح وبان جزء من فانلة ناصعة البياض. رأيت ابتسامة الأب عذبةً، وأحفظها. لمَّع الأب نظارته في كُمِّ جلبابه. حدَّق في الأرض. التمع الزر، فالتقطه. حمل الولد. أجلسه على سور الكورنيش. أخرج من جيب الصد يرى إبرة وخيطا طويلا طويلا. وضع الزر مكانه، وأخذ يفقأ عيون الزر، كأنه يبعد حسدا عن ولده الوسيم . الولد ينظر إلى كف أبيه البيضاء رغم بشرته القمحية المائلة إلى سمرة محببة، وكيف يخيط الزر وبه قلق الدنيا من إبرة قد تشك ولده الوسيم . ثبت الزر. قطع باقى الخيط، وداعب شعر ولده الذي أصبحت يده دافئة؛ والخيط الباقى طار ليصبح جزء من طائرة ورقية، رأيتُها ملونة .