” قالوا صيحوا .. زنديق كافر .. صحنا زنديق كافر” (صلاح عبد الصبور:مسرحية مأساة الحلاج) وكان هذا الذي صاحوا مرددين اتهامه بالكفر والزندقة هو الحلاج، أما حلاج اليوم فهو العلماني، وكثيرون هم الآمرون اليوم للملايين من الشعب المصري: صيحوا علماني كافر، وها هم يصيحون بغضب منذ 19 مارس 2011 تاريخ الاستفتاء: “علماني كافر .. علماني كافر”، وسيزداد الصياح طبعا في الانتخابات، وأغلبهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. *** لا تمشوا وراء أحمد عامر، ولا تسمعوا كلامه؛ إنه علماني. هذا ما قاله عني واحد ممن أحبهم جدا من أفراد عائلتي، وقال هذا الكلام للمقربين له من العائلة حتى لا يستمعوا لما أقول بخصوص الاستفتاء الذي صنع ليفتتنا ويدفعنا دفعا لاتهام بعضنا البعض بالحق مرة وبالباطل المرات، قال هذا وهو الملتحي السلفي المقتنع بأن العلمانية كفر، ونسى أننا نصلي سويا في البيت والمسجد أحيانا، وتلتقي أسرتينا لنفطر سويا في رمضان بعد صيام، نسيَّ، لكنه عاد وتذكر وخجل. *** وبالمثل كثيرون جدا منذ 11 فبراير وحتى الآن يتحدثون ويكتبون عن العلمانية إما دفاعا وتبجيلا، أو اتهاما وتنكيلا، وبين هؤلاء الكثيرين توجد “قلة مندسة” كلفت نفسها مشقة وعناء تعريف هذه العلمانية التي ينتصرون لها أو يحذروننا منها، حتى يتبين لنا معرفة أي علمانية يقصدون، فليس هناك علمانية واحدة مطلقة متفق عليها؛ بل هناك معان ومفاهيم وتعريفات للعلمانية، يحكم كل منها سياقات إنتاجها ووجهة نظر وخلفية من يعرفها، منذ أن ظهرت في أوروبا للتحرر من فساد النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي تحت عباءة فضفاضة ورحبة من فساد رجال الكنيسة في العصور الوسطى، ثم تطور المفهوم ونضج وتماس مع مفاهيم ومناهج أخرى كالديمقراطية والمدنية وحقوق الإنسان والعقلانية ... الخ. لذلك فإذا خاطبني علماني متطرف فأنا أدافع عن الإسلام والمسيحية أو أي ديانة باعتبارها حق وحرية، وإذا خاطبني مسلم أو مسيحي متطرف أدافع عن العلمانية باعتبارها ضامنة للحقوق والحريات في مواجهة التطرف والاستبداد، أدافع عن الحرية، العقلانية، المدنية، الديمقراطية، العدالة، المساواة... أمام المتاجرة والمزايدة واستبدال فساد لا يدعي القدسية بفساد يحتكر القداسة. لذلك فغالبا ما لا يستريح المتطرفون من الطرفين ولا يرضون عني، رغم أني لا أزعم أو أحاول أن أقدم تعريفات مبتكرة ولا كذلك أن أنصب نفسي مدافعا عن الدين أو العلمانية، فأنا مسلم علماني ولا تمنعني هذه عن تلك، ولا أجد تعارضا يستحق الانفعال والغضب والهجوم إلا ممن لا يفهمون أو ممن يكذبون ويستخدمون أيا من الدين أو العلمانية بمتاجرة لحصد مصالح خاصة وشخصية. ومما يمكنك إيجاده بسهولة وأنت تبحث عما يقول القائلون بخصوص العلمانية ستجد أكثر من فيديو ومقال ودراسة تستنكر بشدة أن يكون هناك ما يسمى مسلم علماني، ومنهم من يسخر بشدة من طرافة المزج وكأنك على حد تعبير أحدهم تقول:”أنا مسلم مسيحي أو مسلم يهودي”، في حين يستنكر آخر قائلا بحسم لا يقاطعه تردد ولا تفكير:”كدب ... اللي يقولك كده كداب، ازاي يعني مسلم وعلماني!؟ علماني يبقى كافر علطول” وكثيرا ما ستجد أمثلة وربما تكون أنت نفسك مصدرها بمنتهى الإيمان وحسن النية، متناسيا قوله صلى الله عليه وسلم:” من قال لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما . بالفعل هناك اتجاهات علمانية إلحادية تماما ترى في الدين تغييبا للعقول ولا ترضى فقط بفكرة فصل الدين عن الدولة، وترك كل على حريته، وقناعاته، وممارساته. لكن اختصار العلمانية في هذا الاتجاه دون سواه جهل كبير وفساد في الأرض، وكأن من يردد ذلك يقترف نفس الذي يقترفه غيره حين يختصر دين في جزء ويهاجمه على هذا الأساس، فنحن نقول على من يختصر الإسلام في فكرة الجهاد مثلا أو تعدد الزوجات وأنه دين مقترن بالسيف والدم أو مرتبط بالشهوة والجنس، نقول على صاحب هذا القول إما جاهل أو متجاهل أو أنه يعلم لكنه سيء النية، فما الحال ونحن نقع في الفخ نفسه وبالأداء ذاته. نحن من يخترع المصطلحات والمفاهيم والنظريات لتخدمنا وتساعدنا في اتجاه حياة أفضل وأعدل وأنبل، ولا يعقل عاقل أن يحبسنا مفهوم ضيق نتصارع داخله دون وعي ودون بذل أدني مجهود لمعرفته، أتمنى أن يقف المتناقشون المتناحرون دقيقة قبلا ليعرف كل منهم للآخر العلمانية التي يدافع عنها أو يهاجمها، دون اتهامات بالكفر أو التخلف.