شيعت جنوب أفريقيا وكل محبي الحرية في العالم ,بحزن بالغ الزعيم والمناضل الكبير نلسون مانديلا. الرمز الكبير في النضال ضد العنصرية والتمييز العنصري. مانديلا الذي سجنه نظام الفصل العنصري 27 عاما قضاها في الزنازين والأشغال الشاقة. هذا المناضل لم يكن تاثيره محدودا ببلده وقارته: أفريقيا بل امتد تاثيره الى كافة حركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. امتدّ تأثيره الى منطقتنا العربية, فكان من أكبر مؤيدي القضايا الوطنية العربية ,وكان من أكثر المدافعين عن أهداف وحقوق الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة, فهو القائل: "بأن حريتنا في جنوب أفريقيا ستظل منقوصة طالما لم يتحرر الشعب الفلسطيني". تجربة مانديلا وحزبه "المؤتمر الوطني الأفريقي" في النضال ضد الأبارتهايد تستحق أن تحتذى, من كافة حركات التحرر الوطني وبالأخص ساحتنا الفلسطينية وقضية شعبنا العادلة ضد الجلاد الصهيوني الذي امتلك أفضل العلاقات مع النظام العنصري في جنوب أفريقيا ,ومع كل الفاشيين في العالم. هذه التجربة تشي بدروس كبيرة وكثيرة, لعل أبرزها: أولا: الصلابة النضالية والكفاحية لتحقيق الأهداف الوطنية للنضال والكفاح الشعبي التحرري. يقول مانديلا في الكتاب الصادر عنه بعنوان "رحلتي الطويلة من أجل الحرية" والذي هو عبارة عن مذكراته: بأن النظام العنصري عرض عليه أثناء فترة سجنه: اطلاق سراحه ورفاقه من السجن مقابل قبولهم بحكم ذاتي للسود في جنوب أفريقيا. رفض مانديلا العرض وأفهم ممثلي النظام بأن حزبه لا يقبل بالحلول الوسط ,وأنه ورفاقه سيستمرون في النضال من أجل حرية شعبهم الكاملة. لقد فضّل البقاء في السجن على المساومة على حقوق شعبه الوطنية وعلى حريته. هذا ما قاله للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات أثناء زيارة الأخير لجنوب أفريقيا بعد التحرر. ثانيا: المواءمة والمزاوجة بين المقاومة وعلى رأسها الكفاح المسلح وبين النضال السياسي. لقد رفض مانديلا بعد اطلاق سراحه ,وأثناء زيارته للولايات المتحدة ,وقف الكفاح المسلح في جنوب أفريقيا الذي يخوضه المؤتمر الوطني الأفريقي وكافة الأحزاب والجهات المؤتلفة معه, ضد النظام العنصري, عندما طالبه الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون بذلك ,في المؤتمر الصحفي بين الطرفين في حديقة البيت الأبيض (لم يكن مانديلا رئيسا عندها. كان هذا قبل ابرام اتفاق مع نظام الفصل العنصري) لقد أجاب ما نديلا يومها:" سنظل نقاتل حتى تحقيق انتصار شعبنا واعتراف النظام العنصري بحقوق شعبنا الوطنية: في الحرية والأستقلال والمساواة". ثالثا: الإنسجام التام بين الاستراتجية النضالية كهدف أخير وبين التكتيك السياسي الممارس. لقد حازت السياساسات التي انتهجها الحزب بقيادة مانديلا على التعاطف الكبير من شعوب العالم أجمع, وكذلك من الدول المؤيدة للحرية وللنضال التحرري لشعب جنوب أفريقيا من السود . كان لهذا التعاطف أكبر الأثر في عمل العديد من المنظمات والهيئات الدولية لتشديد الحصار والمقاطعة لنظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا. كانت لهذه المساندة تداعيات أيضا, أبرزها: أن شعوب الدول الاستعارية والتي امتلكت علاقات مع العنصريين في جنوب أفريقيا, ضغطت على حكومات بلدانها ,من أجل مقاطعة نظام الفصل العنصري. تماما مثل حدث مع الثورة الفيتنامية قبل اضطرار الولاياتالمتحدة للانسحاب مهزومة من فيتنام. رابعا: التجربة الوطنية الجنوب أفريقية ,في حشد كل القوى الوطنية الأخرى, في معركة النضال التحرري للشعب أو ما يسمى "بالجبهة الوطنية العريضة". لقد قاتلت العديد من الأحزاب الجنوب أفريقية تحت راية المؤتمر الوطني الأفريقي , بما في ذلك: الحزب الشيوعي. لم يضع مانديلا فيتو على أي حزب يؤمن بأهدافه النضالية. كان ذلك الى الحد الذي جرى اتهام مانديلا من قبل جهات معادية كثيرة, بالانتماء الى الحزب الشيوعي. من جهته نفى مانديلا الاتهامات لكنه كان يستطرد بأن حزبه يعمل جنبا الى جنب مع الحزب الشيوعي. وبعد التحرر سيقرر الشعب ما ومن يريدهم حكاما له. خامسا: تجربة مانديلا في الحكم. بعد الانتصار أجريت انتخابات كانت غاية في النزاهة والشفافية باعتراف كل المراقبين الدوليين, الذين أشرفوا على العملية الانتخابة. شارك فيها السكان البيض (ومنهم الذين اضطهدوا السكان السود تاريخيا ولسنوات طويلة). لم يتعامل مانديلا أوحزبه بقانون رد الفعل مع البيض, وهو ما أذهل العالم آنذاك! من ناحية ثانية: تسلم مانديلا الحكم لولاية واحدة . لم يقبل بكل طلبات التجديد له. آثر الانسحاب من العمل السياسي العام,وترك الراية للآخرين. كان عظيما في ذلك, وبالفعل تجربته جديرة بالاحتذاء بها. على صعيد آخر: بعض الدول مثل الولاياتالمتحدة وفرنسا وبريطانيا والحليفة الصهيونية ,كانت حريصة على اظهار حزنها الشديد على وفاة مانديلا ! للاسف فان هذه الدول امتلكت افضل العلاقات مع النظام العنصري في جنوب أفريقيا. كانت لها علاقات متميزة مع النظام العنصري وكانت تمدة بالأسلحة ومنها تلك: التي كانت تستعمل كوسائل تعذيب للجنوب أفريقيين من السود. هذه الدول في أحيان كثيرة وقفت ضد مقاطعة النظام العنصري واليوم تبكي بكاءا مريرا على مانديلا! ان في ذلك نفاق ورياء. دموعهم مثل دموع التماسيح , كاذبة! لم يتم رفع اسم مانديلا من قائمة الإرهاب الا في عام 2004. أما النظام الصهيوني فحدث ولا حرج: امتلك أقوى الوشائج مع النظام العنصري: علاقات اقتصادية وتجارية (وبخاصة على صعيد تجارة الماس المشتركة بين الدولتين). امتلكت اسرائيل علاقات سياسية متطورة مع النظام العنصري , كانت افريقيا الجنوبية حينها الحليف الاكبر له. امدّته باليورانيوم, وساهمت في تعليمه ,طرق تخصيبه. وللجانبين أبحاث مشتركة في الصواريخ البعيدة المدى وبخاصة تلك الحاملة للرؤوس النووية. وافقت جنوب أفريقيا العنصرية على تجربة اسرائيل للصواريخ في صحرائها! اليوم يبكي نتنياهو على مانديلا ويؤبنه بكلمات غاية في (التأثر والحزن ), ويصفه "بأنه الزعيم الذي لن يكرره التاريخ"! لقد تذرّع نتنياهو بعدم المشاركة مباشرة في جنازة مانديلا بسبب: التكلفة المالية الباهظة! أما رئيس الدولة بيريس فتذرّع بالأسباب الصحية! أنها الأعذار التي هي أقبح من ذنب. لقد كشفت الصحف الصهيونية حقيقة سبب عدم مشاركة المسؤولين الأسرائيليين الأثنين" بسبب عدم رغبة المسؤولين الجنوب أفريقيين بمشاركتهما", لذلك جرت المشاركة الصهيونية في التشييع عن طريق رئيس الكنيست, وكان ذلك في آخر لحظة.للعلم فقط : أن المؤسسات الأكاديمية الجنوب أفريقية ما زالت تقاطع المؤسسات الأكاديمية الأسرائيلية. نقول ذلك: من أجل معرفة حقيقة العلاقات بين جنوب أفريقيا وبين الكيان الصهيوني حاليا. ثم من أجل إلقاء الضوء على الأسباب الحقيقية لعدم مشاركة كل من نتنياهو وبيريز في تشييع الزعيم مانديلا. يبقى القول: بأن مظاهر الحزن التي جرى التعبير عنها في جنوب أفريقيا , وفي دول عديدة في العالم, ومشاركة مسؤولين من تسعين دولة, بينهم رؤساء دول عديدون, هي تعبير حقيقي عن تقدير العالم لهذا الزعيم.