تحدث الكثيرون قبل شهور، حول الفرز الثوري، الصحي، البادئ في مصر. لم يتوقع أغلبنا أن يتخذ هذا الفرز هذه الملامح الجديدة، خلال الأيام والأسابيع القليلة الماضية، والتي تفتح الطريق تجاه توازنات قوي، جديدة تماما علي المشهد السياسي والثوري المصري. يصنع الجميع مشاريعه السياسية، بعضها ثوري، وبعضها لتكريس السلطة أو لتداولها. وأعتقد بأنه من المتاح تقسيم هذا “الجميع” إلي ثلاثة قطاعات، أو قوي، أو أطراف أساسية: المجلس العسكري والنظام الحاكم: يرسخ سلطته في الحكم اعتمادا علي “فضلات” نظام مبارك والحزب الوطني، وحزب جديد وهمي، قام بتشكيله هو، وسماه بالكنبة. قطاع هام من “حزب الكنبة” يتوهم حصوله علي منافع صغيرة مما يسمونه بالاستقرار، إن حل. قطاع آخر تعود علي العبودية، ويتصور أنه لا يستطيع العيش بدونها. وقطاعات آخري منه أصيبت بالإرهاق المؤقت، ومن الممكن أن تكتسب طاقات جديدة، في لحظات حاسمة. هو حزب بلا ميكروفون ذاتي، سوي بعض الإعلاميين والسياسيين الذين يعملون لصالح المجلس العسكري، ولديهم مشروع دعائي مباركي بامتياز. رغم أنهم يمتازون بنفس سذاجة ما قبل 25 يناير، ويفتقدون القدرة علي الاستماع، التأمل، والتعلم، فأن لديهم تأثيرا ما. كذلك يكرس المجلس العسكري سلطته واستمرارية نظام مبارك عبر الفوضي، وأعمال البلطجة، والقوانين المشبوهة والمقيدة للحريات، والإجراءات القمعية بكل أنواعها، والتحرك في اتجاه تشكيل نخب سياسية جديدة، تعمل بالأجر، وليس لديها أي مانع في احتلال مواقع من تتم محاكمتهم حاليا. النموذج الأمثل لهذه النخب، ليس أسامة هيكل فقط، بل رئيس الوزراء نفسه، وأغلب أعضاء حكومته. نقطة القوة الأساسية لهذا الطرف، برغم ضعف أدائه، هو أنه مدعوم أوروبيا وأمريكيا، ويبدو أن خطواته السياسية ترسم بالكامل في دوائر أجنبية، عبر خبراء في الانقلابات وإجهاض عمليات التحول الديمقراطي. إلا أن نقطة ضعفه الأساسية هي غياب الاتجاه الواضح، وكون الشعب، صاحب “الكنبة” أو رافضها، ليس بالغباء والجهل الذي تتصوره السلطة الحالية، وتصوره من قبلها رئيسها المخلوع. النخب السياسية والإعلامية من خارج السلطة لكنها قريبة منها: هذه الفئات، في أغلبها، لم تكن مستقلة حقيقة عن نظام مبارك في أي وقت. مكونة أساسا من بعض النجوم الجدد في الفضائيات، ومن نخب الأحزاب القديمة وبعض الجديدة. دون نسيان القيادة الأساسية للإخوان المسلمون. هو القطاع الذي شارك بعضه في الثورة، بأشكال متنوعة، لكنه لم يراهن بجدية علي نجاحها، ولم يغامر حقيقة في سياقها. هم واعون بأن تغييرا ما سيحدث، ويحاولون حجز مقاعدهم داخل النظام الجديد (نظام مبارك مع بعض الماكياج). وهو ما يتبدي عند تأمل عمليات “توظيف” هذه النخب في مجالات متعددة: برامج تلفزيونية وفضائيات جديدة، مناصب إعلامية ثابتة، وظائف استشارية، وصولا للمقاعد السياسية، التي من المفترض أن تأتي عبر البرلمان. نقطة الامتياز لهذا الطرف هو أنه يتحدث جيدا، أكثر ذكاءا من أبواق النظام، له منابره ذات الشعبية، وهناك قطاعات من الجمهور تصدقه أحيانا، وتصدق حكمته المزعومة. وهو العنصر المرشح للتراجع، فنقطة الضعف التي تسمح لقطاعات مجتمعية بالتملص من سطوته، تكمن في أنه منقسم، ما بين تعديلات دستورية، وضمانات، ومواعيد انتخابات، وكيفية إجرائها. وفي المقابل وعلي المستوي الشعبي، هناك نوع من أنواع الوعي بدأ في التشكل، بأن هذه “الخناقة” ليست الجوهرية الآن. كثيرون من عناصر هذه القوة الثانية لن يجيبوك إن سألتهم لماذا لا تتم محاولة جادة لتشكيل جمعية وطنية ثورية تضم عشرات من الرموز الثورية والمجتمعية، وقادة العمال والفلاحين والطلاب، والمبدعين، والمثقفين، والنشطاء، والجمعيات الأهلية، إلخ... كي تدير فاعليات هذه الثورة، وتقودها في مرحلتها الحالية، وتتحكم في لحظات الفوضي والشطط!!! لن يجيبوك، بينما يتصارعون فضائيا لتشكيل هيكليات مختلفة، ليس لقيادة الثورة، بل لتكريس قيادة وهمية لا يملكونها، و”لركوبنا” في الفترة المقبلة، ولتحجيم المبادرات الشعبية التي تتعارض مع مشاريعهم، ولصالح الحوار والتوسل للمجلس العسكري. نقطة الضعف الأخيرة أن أغلب هذا القطاع، رغم شهرته التي أشرت إليها، ليس له قواعد سياسية حقيقية، أو مواقع عمل أو أحياء سكنية، للنضال السياسي المباشر. حيث من الممكن أن يختبرهم الناس في معارك محددة. وبعضهم لا يتمتع بالشهرة، حتي علي مستوي الفضائيات. وهو ما يتناقض مع الطرف الثالث وإمكانياته. ويفتح الباب أمام بعضهم، ممن ينتمون لقواعد سياسية وشعبية حقيقية، لتغيير موقعه، والاتجاه للقوي الثالثة. الطرف الثالث هو قطاع الثورة النشط: العمال والموظفون والمهنيون المضربون الآن، أو الذين يستعدون لتنظيم احتجاجاتهم، وينتمي إلي صفوفهم الآلاف من النشطاء، دون شروط، ومعهم القليل من الأحزاب الجديدة، وأغلبها تحت التكوين. ما هي نقطة القوة الأساسية لهذا اللاعب؟ أولا كونه الشارع الحقيقي، غير المعني بالخناقات الفضائية. هو يشتبك في عملية ثورية جديدة، تتصاعد حدتها كل ساعة... عملية تأسيس ديمقراطية شعبية حقيقية في الشوارع، الأحياء، المدارس والجامعات، وقبلها جميعا في المصانع ومواقع العمل، لتحقيق مصالحه الحقيقية والمباشرة. العملية الثورية التي يخوضها هذا الطرف، مع كل الإضرابات والاحتجاجات التي يشعلها كل يوم، تري انعكاسات قوتها في ارتباك الإعلام تجاهها، وغياب قدرته علي التعامل معها. الإجراءات القمعية والتخويف لم يفلحا، وتستطيع أن تري لمعانا خاصا في أعين بعض السياسيين الجدد، الأذكياء منهم، وكأنهم يرون مصير مبارك يقترب أكثر فأكثر. هل نقطة ضعف هذا الطرف هي غياب قيادة موحدة؟ ووجود عناصر ومجموعات مخربة بداخله؟ ربما. لكن القيادة الموحدة تتشكل خلال المعركة. وخلال هذه المعركة الثورية يتم اكتشاف عمليات التخريب وتحجيمها. بالإضافة إلي أن العمال والموظفين والمهنيين، لديهم قياداتهم الطبيعية بالفعل، والتي تعمل في اتجاه الإضراب العام، وصولا للعصيان المدني. عناصر هذا الطرف الثالث لم ينشغلوا خلال المرحلة الأولي من الثورة بالمساومات علي التعديلات الوزارية أو التشريعية أو وضع نائب رئيس أم لا. وهم الآن ليسوا مشغولين بخناقات شبيهة، بل بمهمة تأسيس قواعد للديمقراطية الشعبية، ومواقع احتجاج ثابته وقوية، قادرة علي الانتشار، لإنجاز كل مهام الثورة. هدف هذا القطاع بسيط: أن نعيش بشكل أفضل، وكما أسقطنا مبارك، علينا إسقاط نظامه. سواء قام هذا النظام بتزوير الانتخابات المقبلة أم لا، سواء جاءت الانتخابات بوجوه نظيفة أم لم تأت. وعيه الذاتي يصل إلي الاستخفاف بمسألة نظافة اليد، والاهتمام بأن يصل إلي الحكم ممثلوه المباشرون. بعض عناصره واعون بأن المواجهة مع النظام الحالي حتمية وضرورية، وربما لن تكون سلمية كسابقتها. وبالرغم من أن الثوار المصريين قد كسروا من قبل سطوة جهاز الدولة الأمني، إلا أنهم مدركون لغياب أي ضمانات لانتصارهم أو هزيمتهم. فالمعركة في أولها، ومازالت مفتوحة. الطرفان الأولان (المجلس العسكري وبعض النخب الصديقة) يبتزان الطرف الثالث، أو يهددونه، بأنه سيتسبب في الانقلاب علي الديمقراطية وسيدفع ثمن هذا الانقلاب. أو يتهمونه بأنه يجر البلاد إلي مواجهة دموية، أو إلي الفوضي، أو إلي مواجهة بين الشعب وجيشه. وهي التخويفات غير المنطقية، فعادة من يهدد بشئ، هو القادر علي الشروع في تنفيذ تهديده. رغم أهمية الحكمة الموضوعية، وغير الانهزامية، وأهمية الوعي السياسي في اتخاذ الخطوات، ومتي وكيف يتم اتخاذها، إلا أنه من الواضح أن هذا الطرف الثالث، الكارت الحاسم، لديه الآن وعي أكثر تأصلا لمسألة (لا رجوع للوراء)، لقد قدم بالفعل الآلاف من أبنائه من أجل ثورة، لم تنجز أهدافها بعد، ولم يقرر في أي لحظة أن يكون الشهيد الفلاني هو الشهيد الأخير. هناك طرفان ثانويان، يستحقان ملاحظتين سريعتين، ليستا نصيحتين، لا سمح الله: عزيزنا العسكري المجند، سواء كنت مجند جيش، أو شرطة عسكرية، أو ضابط احتياط، إن قمت بتوجيه سلاحك في المرحلة المقبلة لأي مواطن مصري يعتصم أو يضرب أو يتظاهر، فأنت ترتكب جريمة ضد شعبك، وربما تدفع ثمنها فيما بعد. أما أعزاؤنا المتأففون، علي صفحات الفيس بووك أو المنابر الأخري، واللاطمون يوميا، وصباحيا، علي ثورة يقولون إنها انتهت وفشلت. في حالة تأملكم لكل ما يحدث في الأيام الماضية، واكتشاف حقيقة أن الثورة مازالت مستمرة، وها هي تدخل في مرحلة الجد، هناك بديلان عليكم الالتزام بأحدهما، إما أن تنضموا إليها، وتدعموها بأي شكل، وإن كان بأضعف الإيمان. أو عليكم التزام الصمت، والكف عن العويل واللطم، وعدم التأثير السلبي علي معنويات من يخوضون معركتهم. أي بالبلدي: بلاش دوشه. تحية لكل المصريين الفقراء المضربين، المستخدمين لسلاحهم الأساسي، لإنجاز ثورتهم الديمقراطية الشعبية. باسل رمسيس [email protected]