واهم من يظن أن الباطل المتجذر يرفع الراية البيضاء ويرحل, لا الواقع يقول ولا التاريخ, وعلي سبيل المثال فقد عادت أسرة البوربون الي حكم فرنسا بعد ربع قرن من قيام الثورة الفرنسية, والعجيب أنها عادت بنفس منطقها الكريه القديم, حتي أن تاليران وزير خارجية نابليون كان في مقدمة من مهدوا لعودة البوربون للحكم وأقنع الدول الأوربية النافذة بأنهم الأفضل لحكم فرنسا, وهو نفسه من قال عن غباء وصلف تلك الأسرة( انهم لاتعلموا شيئا ولا نسوا شيئا ). عندما هب الشعب المصري هبة خالدة مجيدة فخلع رأس الفساد وبطانته القريبة ساد شعور جارف أن الليل ولي وأن الفجر لاحت أنواره, ولقد كنت أحد الذين غمرهم هذا الشعور الذي يخلط بين الواقع والتمني. ولكن سير الأحداث يدل – علي نحو قاطع – أن البوربون مصممون علي العودة ولديهم ألف تاليران مهيئون للعب كل الأدوار بشرط البقاء علي مسرح الأحداث . إن ما كان واقعا يجري استنساخه بهمة وافرة تحت مسميات جديدة وربما بذرائع جديدة, ولكن الحال هو الحال, وخذ مثلا أمن الدولة, هل هناك ضمانات ألا يتوحش الجهاز من جديد كما سبق أن توحش؟ لا توجد أدني ضمانات, والشيء الوحيد هو تغير اسمه إلى الأمن الوطني, وقد نشر أنه كان ضالعا في اقتحام مقر قناة الجزيرة مباشر مصر بذرائع مضحكة علي شاكلة أنها تبث بغير ترخيص , وكأنها كانت تتحدث همسا طوال الشهور الماضية فلم يسمع بها أحد , والأمر في بعض جوانبه يعكس نفس روح الاستخفاف بالعقول لأن هناك تخمينات تدور عن قطر نفسها وأنها هي المعنية لا الجزيرة, ويبدو أن الجزيرة صارت عقدة مصرية مستعصية فقد سبق أن دخل المخلوع في مشاجرات طويلة مريرة مع القناة, واليوم يعود نفس المشهد, وخذ مثلا الجهاز الإعلامي الحكومي الذي لازال يعتبر بعض أقلام التضليل كنزا استراتيجيا لا يجوز الاقتراب منه, بل ان الكثيرين ممن أدمنوا النفاق وشعارهم الخالد ( انا أنافق اذن أنا موجود ) غيروا شخص من ينافقون لا أكثر فاستبدلوا المجلس العسكري بمبارك وبقي النفاق سيد الموقف . ودعونا نتساءل, هل قامت عبر التاريخ الإنساني ثورة دون تطهير ؟ بل كيف تكون الثورة ثورة من الأصل دون تطهير ؟ لقد مارست الثورة الفرنسية التطهير بالمقصلة ومارسته الثورة الإيرانية بطلقات الرصاص ونحن لا نطلب لأحد مقصلة ولا طلقة رصاص, ولكننا نطالب بتنحية المخربين ومن لا ضمير لهم ولا مبدأ عن مواقع قيادية لازالت جيوش منهم تشغلها بتبجح منقطع النظير! اذ كيف يعهد الي الذين خربوا لكي يتولوا هم أنفسهم الإصلاح ؟ كيف يعقل أن يكون بعض وزراء الثورة من رجال لجنة السياسات سيئة الذكر؟ وعندما نسأل عن عدم تطبيق قانون الغدر بعد إجراء التعديلات التي تواكب روح العصر وهو الكفيل بإبعاد مؤقت لمن أفسدوا الحياة السياسية قبل الثورة وهم من يتلمظون علنا للعودة إلي ممارسة نفس الدور! فهل لدي أحد من تفسير ؟ وهل يفسر لنا أحد تراجعات البعض عما سبق أن أدلوا به من شهادات أمام جهات التحقيق؟ وهل من تفسير لحالة الثقة العارمة التي يتصرف بها جمال مبارك ورفع يديه إشارة إلي قرب انتصاره ؟ وهل من تفسير لتحية بعض الضباط الحارة للعادلي المتهم بإبادة الف من الثوار غير الوف ممن فقدوا احدي العينين؟ ومن تحية البعض الحارة لجمال مبارك ؟ وهل يفسر لنا أحد ترك من يرفعون صور مبارك يعملون بحرية؟ وهل حقا يشكل مبارك وجهة نظر وهو من فعل بمصر والمصريين الأفاعيل من الاعتقالات الي السحل الي التجويع الي المرض الي البطالة الي التبعية للصهاينة والتحالف معهم الي مد الانفصاليين في جنوب السودان بالسلاح الي التوطؤ ضد العراق لتدميره الي حصار الشعب الفلسطيني الشقيق في غزة والتواطؤ في حرب الإبادة الصهيونية عليها وعلي لبنان؟ ان تفسيري لما يجري انما يرتبط بظاهرة مرعبة جرت فصولها في عهد مبارك ولا زالت ثمارها تتبدي في المشهد بقوة ووضوح , أعني ظاهرة ( الافساد العام ) , وأعني أن مبارك خرب تخريبا هائلا في أرصدة مصر المالية أرضا ومؤسسات ونقودا ما هرب منها بأساليب شيطانية وما بقي , ولكن أكبر مصدر للخطر علي الثورة هو التخريب الأخلاقي الذي أصاب البعض . وتفسير الأمر أن أكثر الناس يرفضون السرقة الواضحة فلا يمد أحدهم يده في جيب غيره, ولكن السرقة قد تقع بطريق ملتبس فيجد البعض مخرجا أمام ضميره ولا يتردد في الحصول علي ما ليس حقا له, خاصة مع انهيار تام للقدوة عند الطبقة الحاكمة زمن المخلوع, وعلي سبيل المثال فان بعض من لا يمدون يدهم في جيوب غيرهم لم يتورعوا عن مد الأيدي إلى أرض الدولة فاشتروا بثمن صوري تافه وصاروا بين عشية وضحاها من كبار الأثرياء, ولأن الأمر يعطي ولو مسحة التباس عابرة تتبدي كورقة توت تستر العورة فإنهم يصلون ويحجون وربما تصدقوا من المنهوبات, وبعض من لا يمدون الأيدي إلى جيوب غيرهم استباحوا إلحاق أبنائهم بوظائف لم تؤهلهم لها حظوظهم من العلم والكفاءة وجري اختراع مسوغات للتبرير كمسوغ ( الوسط العائلي واللياقة الاجتماعية ) ومن ثم فإنهم لا يشعرون أنهم مكنوا الأبناء والأقارب من السطو جهارا نهارا علي حقوق أهل الكفاءة, وبعض الذين يأنفون من مد أيديهم في جيوب غيرهم جلسوا علي مقاعد مجالس محلية ونيابية واستحلوا نفوذا وجاها ومالا سحتا من الألف إلى الياء. لقد اعتمد مبارك أسلوبا جهنميا في الإفساد قام تسويغ الحرام في ثوب يعطي مسحة حلال ظاهرة, وقد تشعب الأمر وتعددت صوره من اعتماد منطق التوريث في الوظائف عموما فيرث الابن عمل أبيه مهما تدنت قدراته ومن اباحة المال الحرام بمسميات الحلال الظاهرية بحيث يكون لدينا موظف يتقاضي ثلاثمائة جنيه شهريا وموظف يتقاضي مليون جنيه في الشهر, وراتب الأخير ليس مقابل العمل بل لكسب الولاء وتخدير الضمير بفرض بقاء ضميره حيا من الأصل ! فضلا عن جيش ممن اعتادوا الفوز في الانتخابات والاحتفال به قبل أن تجري اعتمادا علي تزوير ممنهج يجعل ترشيح الحزب المقبور لشخص ما صك نجاح مقدما ! ولقد فرخ هذا المنطق جيشا جرارا يضمر العداوة للثورة لأن من تضار مصالحه من أمر ما يعاديه في عموم الأحوال, لأن هناك من يحبون مصر حبا نبيلا علي نحو ما يحبها الأجلاء المتبتلين في حبها من مدرسة المسيري وعبد الجليل مصطفي والخضيري ويحيي حسين ومحمد السيد السعيد وعبد الحليم قنديل, وهناك من يحبها بقدر ما تعطيه وهناك من يقول أنا ومن بعدي الف طوفان ! ولست أملك ولا يملك غيري أن يمنح أحدا صكوك الوطنية, ولكن علي الذين تعرضوا للسحق المالي والمعنوي والتهميش والاقصاء أن يعلموا أن الثورة في خطر وأن أعداءها جيوش بعضهم متخفي يضمر العداء ويرقب لحظة الانقضاض وبعضهم ظاهر لا يخفي العداء, فلابد من الحيطة وقبل كل شيء لابد أن ترفع الثورة شعار التطهير, وأن يتم اجتثاث الفاسدين قبل أن نصحو يوما لنجد مبارك ونظامه جاثمين علي الأنفاس من جديد ولو تحت اسم جديد !