كانت الأفلام المصرية تصور دائما الجزار على إنه رجل سمين، وملابسه ملطخة بالدماء ولا يتحدث إلا وفي يده السكاكين، فهو شخصية يخشاها الناس ويتجنبون التعامل معه، والغريب أن هذه الأيام شهدت تطورا سريعا لم يخطر ببال أي مخرج في أفلامه، فقد رأينا الأنثى تمسك السكين وتذبح الأضاحي، وتدير محلات الجزارة ببعض المناطق الشعبية، ولا تبالي بمضايقات أو نظرات الرجال الذين اعتبروا هذه المهنة قاصرة عليهم، لما لهم من خصائص تمكنهم من التعامل مع الحيوانات والآلات الحادة، وتقبل مشاهد الدماء المتواجدة حولهم في كل مكان. ولأن الظروف المجتمعية تغيرت وتسببت الأزمات الاقتصادية في تغير بعض الثوابت، كان ل"البديل" جولة وسط محلات الجزارة قبل عيد الأضحى المبارك، وخاصة المحلات التي تديرها أو تساهم فيها المصريات، للاستفادة من هذه المناسبة في الإنفاق على أسرهن. قالت السيدة "نحمده" 40 عاما، وهي إحدى الجزارات في مذبح السيدة زينب، إنها لم تكن تعمل قبل 7سنوات، حتى طلقها زوجها وترك لها 4 أبناء، ولم تتمكن من الحصول على أي أموال أو نفقة تساعدها على المعيشة، ورفض أن يرسل لها أي حقوق بعد الطلاق، واضطرت إلى البحث عن عمل بجوار منزلها في حي السيدة زينب، وبالفعل أقنعها صاحب محل جزارة بأن تعمل معه، مقابل 10 جنيهات يوميا وبالفعل قبلت العمل معه. وتابعت أن ساعات العمل تصل إلى أكثر من 12 ساعة، تبدأ في السابعة صباحا وتنتهي في السابعة مساء، ومازالت تتقاضى 10 جنيهات أو 15 في المواسم التي يزداد فيها الإقبال، وعن سؤالها عن أن هذه اليومية لا تكفي، فأجابت أنها "أحسن من مفيش"، وكل همها هو الحصول على ما تشتري به الخبز لأولادها وتمنعهم من سؤال الناس، كما أن صاحب المحل يرفض زيادة "اليومية" بسبب حالة الركود التي يشهدها السوق، وجعلت "المكسب" بسيط جدا، وبالتالي لا يستطيع أن يعطيهم أكثر من ذلك. وأضافت أنها تقوم بتقطيع اللحم وتزن للزبائن، وتتظف "الكرشة" و" الكوارع"، وتنتظر أن يعطيها الجزار بعض كميات اللحوم والكبدة أو المومبار، في نهاية الأسبوع وتكون هي مكافأة جيدة تساعد مع ال10 جنيهات اليومية. بينما قالت "أم مصطفى" التي تعمل في محل جزارة بمنطقة شبرا الخيمة، أنها اضطرت إلى النزول مع زوجها في المحل منذ حوالي سنة؛ نظرا لاحتياجه لبائع أو "صنايعي" معه ولكنه لم يستطيع توفير "اليومية" وهي تتراوح من 50 إلى 70 جنيها في اليوم، وبدأ يعلمني كيفية تقطيع اللحم وفرم الكفتة وغيرها من الاحتياجات التي يطلبها الزبائن. وأكدت أن المهنة شاقة جدا سواء على الرجال أو السيدات، ولكنها لن تتخلى عن زوجها وقت حاجته، وكانت تجد صعوبة في التعامل مع الزبائن في البداية، ولكن بمرور الوقت تعودت على العمل ، واعتاد الزبائن أن يروني وأنا أمارس مهام الجزارين، دون أن يتساءلوا عن سر وجودي في مكان كان مخصصا للرجال فقط، ولكن ظروف الحياة تفرض علينا التنازل عن بعض الأشياء المعتادة، وتصبح تربية الأبناء هي الحقيقة التي تتكسر أمامها كل ما هو مألوف. وتحكي السيدة" نادية" 55 عاما عن سر تواجدها في محل جزارة بعزبة النخل، بأن والدها لم ينجب ذكورا وكان يتمنى أن يرزقه الله بولد حتى يساعده في المهنة التي ورثها عن جدي، ولكن لم يحقق له القدر أمنيته، وكانت هي البنت الأكبر في أسرة مكونة من 9 أفراد، وعندما توفى الأب وليس لهم مصدر دخل سوى محل الجزارة، قررت أن تدير شئون المحل حتى تجد شخصا أمينا، ولكن كل من جاءوا يعلمون أنهم مجموعة بنات وبالتالي لا يعطيهن حقوقهن كاملة، ومن هنا بدأت رحلة العمل ك"جزار"، وسط وجود بعض المضايقات من أهالي المنطقة، ولكن الحصول على لقمة العيش وتدبير المصاريف اللازمة للأسرة دافعا لتكمل مشوارها مهما كانت الصعوبات. وتقول "نادية" إنها دفعت ثمن دخولها هذه المهنة بأنها لم تتزوج حتى الآن؛ بسبب نظرة الناس والجيران لها وحتى أقاربهن، الذين أبدوا تخوفهم من تأثير عملها ك"جزارة" بأنها ستكون شخصية شرسة ولا يمكن التعامل لها، ولم يثمنوا لها أنها فعلت ذلك بدافع مسئوليتها عن أسرة كبيرة بعد وفاة والدهم. وفي النهاية قالت إنها كانت فتاة متعلمة وتحلم بحياة كريمة، لكن لم تمهلها الأقدار أن تحقق كل ما تتمناه، وطالبت بتغيير نظرة المجتمع إلى المرأة العاملة، أيا كانت وظيفتها لأنها لم تخرج من بيتها من باب الترفيه، وإنما المسئولية الاجتماعية والظروف تفرض عليها ما لا تحب.