تُثبِت المرأة دوماً أن إمكانيتها بلا حدود، وأنها قادرة على أداء أي عمل، مهما كانت طبيعته؛ فهي تحمل في جعبتها الكثير؛ والدليل هؤلاء السيدات اللاتي اقتحمن مِهَن الرجال، والتي ظلت لسنوات حكراً عليهم، رافعات شعار "ما فيش حد أحسن من حد"، فمنهن من تعمل "ميكانيكية"، وأُخرى "قهوجية"، فضلاً عن الجزّارة والجزمجية.. وغيرهن الكثيرات. بحثت عن هذه النوعية من السيدات اللاتي يمتلكن إرادة من حديد وقوة بأس لا تلين أبداً أمام مُعتقدات وتقاليد المجتمع الشرقي، الذي ينظُر إلى المرأة باعتبارها مخلوقاً ضعيفاً، لا يقوى على مُجابهة الرجال، خاصة في ساحة العمل. "منى" ميكانيكية من حديد! هذه الفئة من السيدات وجدتها في أعمال يعاني الرجال أنفسهم أثناء العمل بها، وكانت البداية مع "منى عبد الحميد" وتعمل "ميكانيكية" في ورشة أبيها مع إخوتها الرجال بمنطقة "بين السرايات" القريبة من جامعة القاهرة، عندما ذهبت إليها في محل عملها، وجدتها تشبه الرجال في ملامحها وطريقة ملابسها؛ إذ كانت ترتدي سُترة من قطعة واحدة مُغطاة بالشحم والسواد، الذي غطى وجهها أيضاً، وفوق رأسها قبّعة من القماش تُخفي شعرها القصير. قالت "منى" -بينما كانت تُصلّح أحد إطارات السيارات- إنها تعمل في هذه المهنة منذ أن كان عمرها سبع سنوات؛ إذ تُوفي والدها وحُرمت من دخول المدرسة، وطلب منها أخوها الأكبر أن تذهب معه إلى الورشة للعمل، فاستجابت له، وأتقنت المهنة في وقت قصير، وذاعت شهرتها بالمنطقة. أضافت: "الزبائن يستغربون عندما يحضرون إلى الورشة، ويُشكّكون في قدرتي على مزاولة هذه المهنة، ولكن كل ذلك يزول ببراعتي في العمل، ورغم تجاوزي سن الثلاثين من عمري؛ فإنني لم أتزوّج حتى الآن؛ لاعتقاد الرجال أنني "مسترجلة"، خاصة بعدما رفضت ترك مهنتي التي أعشقها، وتحقق أرباحاً معقولة تصل إلى 50 جنيها يومياً، وأخطط حالياً لشراء ورشة خاصة بي. قالت "منى": "أحرص على متابعة كل ما هو جديد في عالم الميكانيكا، خاصة في مجال إطارات السيارات؛ من خلال الذهاب إلى كبار الميكانيكية"، موضحة أن هذه المهنة تحتاج إلى قدرات بدنية عالية، وتركيز دائم وسرعة بديهة. "شيماء": رفضت كل من تقدّموا لزواجي لرعاية أولادي واستكمال تعليمهم "شيماء" معلّمة المية السُخنة! أما شيماء وشهرتها "أم عمرو" فتعمل قهوجية؛ بعد أن أوصاها زوجها قبل وفاته -منذ عشر سنوات- باستمرار العمل داخل المقهى الذي يمتلكه بمنطقة العتبة. عندما دخلنا إلى المقهى، وجدناه مملوءاً بالزبائن، خاصة من الحرفيين وباعة الملابس، وقابلتنا صاحبة المقهى بملامح حادة، وكانت ترتدي جلباباً أسود فضفاضاً وإيشارب، وقالت "شيماء" (40 سنة): المقهى هو المصدر الوحيد للإنفاق على أسرتي المكوّنة من أربعة أفراد ووالدة زوجي، الذي لم أتردد في تنفيذ وصيته بالعمل بالمقهى، لقناعتي بأن الإنسان الوحيد الذي يحافظ على الدخل، هو صاحب العمل نفسه. وعن طبيعة العمل قالت: يبدأ عملي في السادسة صباحاً، ويستمر حتى الحادية عشرة مساءً، وفي وقت الظهيرة أذهب إلى البيت -بجوار المقهى- لإعداد الطعام لأبنائي، وهم في مختلف مراحل التعليم، وأكبرهم في السنة الأولى بكلية السياحة والفنادق، والاثنان الآخران في الثانوية العامة والإعدادية، أما ابنتي فقد حصلت على دبلوم تجارة. أضافت: أقدّم كل أنواع المشروبات بالمقهى، خاصة الشاي الذي أجيد صنعه، بالإضافة إلى الشيشة التي أجهّزها بنفسي، ويعمل معي عامل واحد. كما أوضحت "شيماء" أنها تتعرّض لمضايقات ومعاكسات خاصة من الغرباء عن المنطقة؛ الذين لا يتقبّلون عمل المرأة في هذه المهنة، ما يضطرها إلى اتّباع المعاملة الجافة معهم. قالت: رفضت كل من تقدّموا لزواجي بعد وفاة زوجي؛ لرعاية أولادي واستكمال تعليمهم، ولأنني كنت أحب زوجي بشدة. وأكّدت أن أولادها لا يجدون حرجاً في طبيعة عملها، بل إنهم يفتخرون بها، وترفض أن يساعدها أحد من أولادها في عملها حتى يتفرّغوا لدراستهم، وبالفعل تفوّقوا، مشيرة إلى أنها تحلم بأن تتزوّج ابنتها، وترى أولادها في وظائف مرموقة، وأن تفتح مقهى آخر. "إيسترن": عملي لم يُعطل دراستي فحصلت على ليسانس الآداب "إيسترن" أشهر جزمجية في القليوبية! اختارت "إيسترن حنا" (35 عاماً) العمل في تصليح الأحذية "جزمجية" بورشة بمدينة بنها بالقليوبية مع أبيها؛ بعد كبر سنه وعجزه عن العمل؛ إذ إنها الابنة الوحيدة التي تعيش معه، بعد وفاة أمها وهجرة أخيها إلى الخارج منذ سنوات. قالت "إيسترن": "بدأت العمل في هذه المهنة منذ ثلاثة عشر عاماً، وكُنت أساعد أبي قبل ذلك من المنزل"، مؤكدة أن عملها "جزمجية" لم يُعطلها عن دراستها؛ إذ حصلت على ليسانس الآداب من جامعة القاهرة. وأضافت أنها الوحيدة التي تعمل في هذه المهنة بالمنطقة؛ لأنها مهنة رجال، لا تجذب السيدات، ويعتبرها الكثيرون من المهن المهمّشة، رغم أهميتها خاصة عند الفقراء الذين لا يستطيعون شراء حذاء جديد كل شهرين مثلاً، مشيرة إلى أنها تُصلّح الحذاء (الجلد والنعل) بالماكينات أو يدوياً بما لا يزيد على ثلاثة جنيهات، موضحة أن خطيبها الذي يعمل مُدرساً يُقدّر عملها، وأحياناً يُساعدها فيه، وتتمنّى افتتاح مصنع للأحذية ومعرض لبيعها. "سُكينة" ترفض أن تكون عالة على أحد "سُكينة" ملكة المكواة القديمة! سُكينة عبد الدايم "مكوجية" عمرها تجاوز السبعين عاماً، وتُصِرّ على العمل داخل محلها الضيق بمنطقة السيدة زينب، "سكينة" لها سبعة من الأبناء و15 حفيداً، بدأت مهنتها عندما قررت أن تساعد زوجها في المحل فور زواجهما، وآنذاك كان دورها مقصوراً على ترتيب الملابس، حتى تعلّمت "الكي" بالمكواة الحديدية، وخصص لها زوجها جزءاً من المحل لتقف بجواره، واشترى لها مكواة؛ لأن الأبناء كانوا في حاجة إلى مصروفات كثيرة. استمرت "سُكينة" في مواصلة عملها منذ أن تُوفي زوجها منذ 20 عاماً؛ إذ زادت مصروفات الأبناء، بالإضافة إلى حاجة البنات لتجهيز مستلزمات الزواج. "سكينة" لم تُحدّد سعراً معيناً لكيّ الملابس، ومكسبها اليومي لا يتعدى 10 جنيهات، تكفي نفقاتها الخاصة، بعدما عمل أبناؤها كُل في مجاله؛ إذ إنها ترفض أن يُساعدوها أو أن تتوقف عن العمل، حتى لا تكون عالة على أحد. تبدأ "سكينة" عملها في ساعة مبكرة من صباح كل يوم، وتظل داخل محلها حتى السابعة مساءً، وزبائنها فقط من كبار السن، الذين ما زالوا يتمسكون بكيّ ملابسهم بالمكواة الحديدية بدلاً من الكهربائية. "أم فاروق": أتمنى تجهيز ابنتي للزواج وأداء مناسك الحج "أم فاروق" سايس مصر الجديدة! اختارت "شريفة عبد الحميد" وشهرتها "أم فاروق" أن تعمل "سايس" لتنظيم السيارات في منطقة مصر الجديدة، وترفع شعار "الرزق يحبّ الخفّية" رغم أن عمرها تجاوز 50 عاماً. ذهبنا إليها وبصعوبة التقينا بها؛ لأنها مشغولة دائماً في مسح السيارات أو البحث عن أماكن لركنها، قالت إنها اختارات هذه المهنة، رغم صعوبتها، بعدما تُوفي زوجها منذ سبع سنوات، إذ ترك لها ثلاثة من الأبناء، ولم تكن تتقاضى معاشاً؛ لأن زوجها بائع متجول. وأضافت: "بحثت عن عمل ولم أجد، فقررت أن أعمل "سايس"، ورغم مشقة العمل استطاعت الصمود في المهنة، رغم استنكار أصحابها من الرجال"، وتقول "أم فاروق": "يبدأ عملي في السادسة صباحاً حتى العاشرة مساءً، وأحدد أماكن وقوف السيارات مقابل الحصول على أي مبلغ، ثم أعود لبيتي، لتدبير احتياجات أسرتي من الطعام والملابس والمصروفات الأخرى"، وأضافت أن كل ما يعكّر صفو حياتها أن ابنها الأكبر -الذي يعمل في مكتب محاسبة- لا يعترف لها بالجميل، ويستنكر طبيعة عملها، رغم أنه لا يساعدها في تربية إخوته، موضحة أنها تتمنى إتمام تعليم ابنها الأصغر، حتى يلتحق بالجامعة، وتجهيز ابنتها الوحيدة للزواج، وأداء مناسك الحج. "المِعلِّمة رضا": بعض الزبائن يضايقونني ويضطرونني إلى تهديدهم بالساطور "رضا" مَعَلِّمة الجِزارة! اختارات "رضا محمد" (45 سنة) مهنة الجِزارة، وأصبحت أشهر جزّارة في منطقة شبرا الخيمة، خاصة بعد أن ساعدها زوجها -الذي يعمل في نفس المهنة- في عملها، توجّهنا إلى محل "رضا" ووجدنا الساطور في يدها، وتمارس عملها الشاق، قالت: "ورثت المهنة عن آبائي وأجدادي، ومارستها في العاشرة من عمري، ولم أنقطع عنها، حتى بعد زواجي، واستطعت أن أفتتح محلاً خاصاً بي". أضافت: "بعض الزبائن يضايقونني ويضطرونني إلى تهديدهم بالساطور والسكين، وآخرون يُجبرونني على احترامهم، وقد لقّبني التجار بالمِعلِّمة رضا"، موضحة أن لديها أربعة أبناء يساعدونها في عملها. وقالت: "زوجة شقيقي وأختها تعملان معي، ويصل المكسب اليومي إلى 200 جنيهاً، ويساعدني زوجي في العمل أثناء المواسم والأعياد"، ولكن طبيعة عمل "رضا" جعلت الشباب يبتعدون عن بناتها عند التفكير في الزواج. أمثال هذه النماذج كثيرات في المجمتع المصري، صاحبات إرادة قوية، قادتهن لاقتحام مِهَن الرجال دون تردد، يدفعهن لذلك البحث عن الرزق، مهما كانت مشقة المهنة.