شاء الله أن يرتبط اسم هذا الميدان بالأصوات و الهتافات التي انطلقت منه في وجه الظلم و القهر و الاستعباد. ميدان التحرير الذي تعودنا منه الصخب و الضجيج و التلوث و الازدحام – المكان الذي يقضي فيه الناس مصالحهم بصعوبة في بيروقراطية المجمع و يروي من خلال متحفه تاريخ القدماء المصريين الذين لم نكن نفتخر إلا بهم و غلقت منافذه في اتجاه قلعة أمريكا المنيعة – هذا المكان الذي كنا إما نهابه لما شهده من إرهاب أو نحمل همه لشدة ازدحامه أو نحبه لمقاهيه العتيقة – أصبح أرضا لأصعب معركة عرفتها مصر منذ الفراعنة. نفس الميدان الذي أقلني إليه سائق التاكسي حيث كانت جامعتي و هو يسألني “إيه أخبار الدعارة عندكم؟” و هو غالبا يتخيل شباب الجامعة الأمريكية “المليونيرات اللي قالعين هدومهم” و نفس الميدان الذي تمر به أختي بالمترو و يستقل عربتها – عربة السيدات – رجل ملتحي مع زوجته المنتقبة متجاهلين تأكيد أختي على ضرورة احترام أن العربة مخصصة للسيدات فقط — الميدان الذي شهد يوم المرور العالمي و طبقت فيه القواعد المرورية لساعات معدودات – هو ذات الميدان الذي شهد أجمل أيام عاشها الشعب المصري. ففي أيام الثورة الأولى و قبل أن يسقط النظام – سقط ما هو أقوى من كل الأنظمة في العالم – سقطت أسباب فرعنة الحاكم و قوته و تسلطه – سقط الخوف. الكل يعرف ذلك فلقد “استيقظ المارد من نومه” كما أطلق علينا البعض و ارتفعت الأصوات و قدم المصريون أطهر الأرواح في سبيل الحق والحرية. و لكن ما قد يجهله البعض و لم تتناقله وسائل الإعلام أو ربما لم تعره اهتماما شديدا لانشغالها بعناوين الأخبار العاجلة التي كانت تتجدد كل دقيقة – ما لا يعرفه كثيرون منا جيدا هو ما حدث في كواليس الثورة و ما جرى بين أفراد المليونية. في أول أيام الثورة لم أكن بالميدان و تعاركت مع أختي خوفا عليها حين خرجت هي و حمدت الله عند عودتها يوم ضرب ثم انسحاب الداخلية و فرحت حين روت لنا كيف ساعدها و سندها رجل ملتحي عند إغمائها من كثرة الغازات المسيلة. فأختي ليست محجبة و الرجل “مظهره” سلفي ... و في هذا اليوم اكتشف كل منهما أن باطنهما إنسان. تهدأ الأمور نسبيا بعد نزول الجيش و يهتف الثوار أحلى الشعارات و أنزل الميدان متأخرا على من سبقونا بالإيمان بقضيتنا – نتوقف أنا و أصدقائي في الزمالك و نمشي في اتجاه التحرير. نرى أهالي الزمالك “الناس الشيك و البشوات بتوع زمان” يحملون أكياسا كبيرة و ثقيلة و يطلبون مني و أصدقائي مساعدتهم في حملها و توزيع ما بداخلها من “ساندوتشات” أعدت منزليا على من في الميدان. لم يتهافت أحد على الطعام حتى من بان عليهم الفقر أخذوا ما قدمناه لهم على استحياء. و هذا رجل آخر بجلباب و لحية يحمل لافتة و يصيح بما كتب عليها “سفااااح... قااااتلللل” و ظل يرددها من صلاة الظهر و حتى صلاة العصر و حين سمعنا من فتاة منتقبة كانت تمشي بجواره أن ابنه استشهد في الميدان و سأله البعض عن اسم ابنه قال “ما حدش له دعوه بابني مين – أنا مات لي 300 ابن و بنت هنا”. و نبكي. في يوم القداس مع الهتافات التي أذاعتها المحطات و الفضائيات “مسلم – مسيحي – إيد واحدة”... ما لم تلتقطه كاميراتهم و إذاعاتهم هو مجموعة من السيدات و بناتهن يرتدين الخمار – يرددن خلف القسيس “بارك بلادي” و مرأة مسيحية تلبس الصليب في رقبتها تقف بجانبي أنا و أختي تقول “دلوقت عرفت مين اللي فجر كنيسة القديسين... كانوا بيحاولوا يوقعونا في بعض”. في يوم آخر تقترب مني أنا و صديقي مرأة منتقبة تحمل كيسين في يديها أحدهما به “كعب غزال” و الآخر به بسكوت و تقول لنا بدعابة “ها يا شباب تاكلوا إيه؟ كنتاكي ولا بيتزا هت؟” لم تخش التحدث مع رجلين غريبين و لم نخش نحن عليها و لا على المئات و الآلاف من الفتيات في الميدان و لا هن خشين على أنفسهن من أي نوع من أنواع التحرش. لم تلتقط العدسات الشاب الذي كنت ربما أخاف أن أمشي معه في نفس الشارع في وقت من الليل فربما بمظهره و منظهره هذا يكون في يده مطواه أو في فمه بشله – لم تلتقطه إلا عدسة عيني و هو يحمل كيس القمامة و ينظف الميدان أولا بأول. نعم .. سقط الخوف لتسقط معه الحوائط و الجدران التي عزلتنا كبشر عن بعضنا البعض لسنين و قرون – سقطت كل المفاهيم الخاطئة و التخوف أو الحذر من المختلف و أي غريب أو آخر. بالفعل كانت أجمل ثمانية عشرة يوما شهدها الميدان .... نفس الميدان الذي يشهد الآن الصراعات و الاختلافات و المخاوف و إعادة تشييد جدران العزلة الاجتماعية و الدينية من جديد. “مصر مش التحرير” عبارة لم يتجرأ على قولها إلا من كان مدفوعا أو مأجورا منذ أشهر قليلة. و اليوم أصبحت أوقع ما يقال عن ميدان تتعالى فيه أصوات مختلفة تقطع أصابع “الإيد الواحدة”. اشتقت للميدان الذي أحببته ... اشتقت لمصر.