كل ثورات التاريخ الانسانى قامت من أجل : العدل والحرية .. وكل أدبيات العقائد السماوية وغير السماوية ، أكدت عليهما ، ونقبت عن معناهما اليقيني والمقدس داخل الروح الإنسانية ، وعن مدى تحققهما في التجمعات البشرية .. وكل الفلاسفة والمفكرين حاولوا تعريفهما وإدراك معانيهما المتعددة .. وكل ِسير وتراجم رموز وعلامات النضال الإنساني طوال التاريخ ، من أنبياء وقديسين ومناضلين ومفكرين ، تحفل ببحثهم الدائب والمستمر عن يوتوبيا إنسانية أكثر عدالة وحرية .. ولا يختلف في ذلك المهاتما غاندي الهندوسي النبيل ، عن سيدنا على بن أبو طالب المسلم المثالي الحالم ، عن سبارتكوس محرر العبيد ، عن جيفارا المناضل المثال ، الذي لقي حتفه في أحراش بوليفا ، وعيناه مغلقة على أحلامه عن العدل الانسانى .. وثورة 25 يناير إحدى فصول التاريخ الإنسانى ، ورفعت منذ تباشيرها الأولى شعارات : الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية ، كمبادئ أساسية للثورة وللحالمين بها .. ومنذ نجاح الثورة في الثاني عشر من فبراير ، في استهلال صفحة جديدة من تاريخ الوطن ، وهى تواجه إمتحانات عدة ، آخرها الجدل الدائر حالياً حول الدستور أولاً أم الانتخابات .. وهو ليس جدلاً بقدر ما هو صراعاً بين فريقين ، لكلِ منهما أسبابه وتفاسيره ، ومخاوفه وظنونه .. الفريق الأول يضم تيار الإسلام السياسي بكافة تنويعاته وأطيافه : إخوان مسلمين ، حزب وسط ، سلفيين ، جماعة إسلامية ، جهاد ، وذلك بعد أن تخلت الجماعتان الأخيرتان عن العنف ، وقررتا المشاركة في العملية السياسية . ويشاركهم نفس التوجه الأعضاء البارزون في الحزب الوطني المنحل ، خاصة من كان منهم عضواً في المجالس النيابية أو المحلية .. والفريق الثاني يضم كل المناصرين للدولة المدنية من ليبراليين ويساريين وقوميين وعلمانيين ، ويشاركهم أخواننا المسيحيين كأقلية لها مخاوفها الطبيعية والغريزية ، من الأحزاب ذات الصبغة الدينية .. ويعتبر تيار الإسلام السياسي البدء بالدستور ، تهميشاً واستهزاءاً بالشعب المصري ، و بنتيجة التعديلات الدستورية التي أجريت في التاسع عشر من مارس الماضي ، بضمانات كاملة ، وشفافية واضحة .. في حين يرى الفريق الآخر أن نتيجة الاستفتاء على التعديلات سببها حالة الاستقطاب الدينية الحادة ، التي جرت يوم التعديلات ، على أساس عقائدي ، لا على أساس سياسي ، دون التفات منهم لشعب يعتبر الإستقرار قدس من أقداسه .. وأرى أن الفريقين اللذين إجتمعا في ميدان التحرير على حرية الوطن ، لابد أن يلتفا الآن حول تنمية الوطن واصلاحه ، بإيثار وتجرد ، وأن يعليا من قيمة الوطن فوق الجماعة أو الحزب أو المصالح الذاتية الضيقة .. والحل يكمن في وجهة نظري في وثيقة قانونية ملزمة ، يتوجب على أي مرشح للرئاسة أو المجالس النيابية أو المحلية ، حزبياً كان أم مستقلاً ، التوقيع عليها ، كمصوغ أساسي وجبري لقبول ترشيحه .. وتوقيع المرشح على الوثيقة يعنى قبوله التام للدولة المدنية ، ومبادئها الأساسية في المساواة والعدالة بين كل فئات الأمة ، وعدم التمييز بينهم على أساس الدين أو اللون أو الطبقة الاجتماعية ، واعتبار حرية العقيدة والتفكير والبحث ، حق مكفول للجميع دون استثناء ، يحفظه القانون وتكفله الدولة .. وللأفراد حق الدفاع عن حريتهم حال شعورهم بالإقصاء أو التهميش .. والوثيقة حال الموافقة على توقيعها ، ستكون حلاً توافقياً بين فرقاء الوطن ، وستكون البرهان والدليل على قبول جماعات وأحزاب الإسلام السياسي ، بعصرنة الدولة ومدنيتها ، وبآلية الديمقراطية كأساس للحكم ، وبتداول السلطة بين الأحزاب كطريق وحيد لبناء الدولة المصرية المعاصرة .. وستكون الوثيقة الإطار المرجعي الملزم لأي فصيل سياسي أو حزبي عند التعديل الكامل للدستور المصري .. والوثيقة هي البديل الأفضل حالياً ، خاصة أن كل التيارات المساندة لأطروحة : الدستور أولاً ، لم تصل بعد إلى شفرة الشعب المصري أو كيميائه ، ولم تقدم حتى الآن بدائل وطنية حقيقية ، يتقبلها بسطاء الوطن وفقرائه ، ويعتبروها الخريطة الأمثل في العبور بمصر من وطأتها الحالية .. وأخيراً : يقينا سنختلف في توجهاتنا السياسية ، لكننا أبدا لن نختلف حول الحرية والعدل كأهم دعامتين للدولة الرشيدة ..