"كما تدين تدان" حكمة مصرية توارثتها الأجيال، لكن لم يكن من المتوقع أن تطبق بهذه القسوة والوحشية وانعدام الإنسانية.. من أول "ايه اللى وداها هناك ..حتى قتلانا فى الجنة وقتلاهم فى النار.. يستاهلوا اللى بيحصلهم .. احسن خلى الجيش يخلص عليهم بتوع رابعة والنهضة دول اللى كفرونا وضلموا حياتنا .. كلها عبارات أقل ما توصف به أنها معادية للإنسانية وتحض على الكراهية، توضح إلى أى مدى وصل المجتمع المصرى إلى مشهد عبثى من الطراز الأول، واصبح كل ما يحتاجه هو لحظة انسانية صادقة يتعقل فيها ويتأنى فيما يبدر عنه من سلوكيات.. ويبقى سؤالا واحدا "مالذى حدث للمصريين وما هذا التحول فى علاقاتهم الإنسانية ببعضهم البعض،هل أصبحوا لا يتعاطفوا مع قتلاهم وأصبح الدم رخيصا ..وعلى من تلقى المسئولية فى ذلك التغيير السيئ؟ تقول الدكتورة سوسن الفايد، الخبير بالمركز القومى للبحوث الجنائية والاجتماعية، إن ما يحدث الآن من سلوكيات وردود أفعال هو حالة مؤقتة تتسم بانفعالات تلقائية؛ نتيجة الاضطرابات التى تهدد بمصالح المواطنين بشكل عام، خاصة بعد ان توقعت الأغلبية أن تسود حالة من الهدوء والاستقرار بعد 30 يونيو، ولكن لم يحدث ذلك نتيجة لرفض التيارات الإسلامية لما حدث، ومن ثم تثير الجدل والغضب فى كل مكان، مثلما يفعل أى طفل غاضب حيث يضرب الأرض بقدميه بعد خسارة رحلة طويلة من السعى للوصول إلى السلطة. وأضافت "الفايد": عندما شعرت الجماعة التى حاربت للوصول للحكم منذ 1928 بأن هذا المغنم سلب منها، فمن الطبيعى أن يكون لها هذا المردود العنيف وتقوم بمرحلة غضب عارمة، بل أصبح هذا العنف يجد دعما له من التنظيم الدولى للجماعة. ولكن على الجانب الآخر وما يصدر من المواطنين المصريين من ردود فعل غير متجاوبة مع ما يحدث فى رابعة العدوية يعود لأن هذا المواطن استعاد بعد 30 يونيو حالة الأمل فى أن يعيش فى أمان وارتياح على المستوى الشخصى والعام، بعد أن كان يأخذ رسائل معادية وعنيفة من هذه الجماعة، التى ليس لديهم مانع وهم فى الحكم من التفريط فى الأمن القومى المصرى بان يتخلوا عن 40 % من سيناء مقابل علاقاتهم مع إسرائيل وحماس، أو التخلى عن حلايب وشلاتين للسودان، أو بيع قناة السويس بصكوك. أما عن الحلول وكيفية رأب هذا الصدع الذى أصاب الإنسانية، قالت "الفايد" هناك حلان يسيران بالتوازى، أولهما: إدراك أن المواجهة الأمنية غير كافية لمواجهة هذا العنف، بل يجب البدء بمواجهة الفكر بالفكر، ومراجعة كل هذه الأفكار المغلوطة والمتطرفة عبر المؤسسات التعليمية والإعلام والدينية من أزهر وكنيسة، ووضع خطاب دينى مستمر لا يتوقف يقوم بتصحيح هذه المفاهيم الخاطئة لدى هذه الجماعات الإسلامية، وتنوير المجتمع بوسطية الدين الإسلامى المعتدل. ثانيا: الاهتمام بفئة الشباب وتعليمهم، وتوفير فرص عمل وتوظيف واستغلال طاقة الشباب ايجابيا بدلا من استغلالها سلبيا فى العنف والإرهاب والإدمان؛ لأنه من الخسارة إهدار هذه الطاقات الفاعلة من 60 % من المجتمع المصرى يمثلوه. بينما يرى الدكتور أحمد عبد الله، أستاذ الطب النفسى، جامعة الزقازيق أن المصريين لديهم مفارقة غريبة وهى أنهم بالرغم من كونهم مركبين إلا أنهم يروا الأمور بتبسيط شديد، والمسألة أبعد وأعمق من حالة التشفى والاستهانة التى يمارسها البعض الآن تجاة الدماء التى تسيل من كلا الطرفين، سواء فى رابعة من مؤيدى المعزول او العكس، وأن هذه الحالة تعود فى الأصل إلى التركيبة الهشة الغلبانة التى يعانى منها المصريون. ويوضح عبد الله أن المصريين قبل 30 يوينو كانت لديهم حالة من الخوف والتهديد يشعرون به من رسائل النظام الحاكم أو تيارات الإسلام السياسى بشكل عام، تضمنت أن هناك جماعة تحاول فرض رؤيتها وأفكارها وايدلوجيتها عليه، وهو فى المقابل يقف وحيدا لا بلا أى قوة يستند إليها، فليس لديه نفس العصبة أو الحشد او الجماعة او الميليشية التى تعتمد عليها التيارات الاسلامية فى الترهيب والترويج لفكرتها، ومن ثم يشعر هذا المواطن بالضعف والهشاشة مقابل هذه الجماعة وعلى الفورعندما يشعر أن هناك طرفا آخر يفوضه لحمايته يشعر بالاطمئنان، رغم أن هذا الشخص لا يعنى بتفويضه أنه موافق مثلا على قتل الموجودين فى رابعة او النهضة. كما فسر عبد الله أن هناك سببا آخر، يجعل كل طرف يستهين بدم الآخر او لا يعبأ به، وهى ترجع لخطورة التعميم واتهام الآخرين بالباطل مما يخلق حالة تسمى بالنفى المتبادل والتعامى المتبادل، فعندما يصف معتصمو رابعة كل المعارضة التى نزلت 30 يونيو بالكفار وضد الشريعة والإسلام وانقلابيين، والعكس عندما يتم وصف المعتصمين فى رابعة بالإرهابيين والمأجوريين والمغيبين وغيرها من هذه المعانى، يتولد لدى كل طرف شعور أن الآخر لا يراه ويتهمه زورا ويدعى عليه كذبا. وأضاف "عبد الله" أنه مع هذه الهشاشة والضعف فى العقلية وغياب المعلومات ونزاهة المصادر، فضلا عن الضغوط المحيطة بكل طرف، يجد المواطن المصرى نفسه مدفوعا لتبنى اختيار واحد فقط او موقف، ويصبح هناك قطبية حادة، ويتحول المشهد إلى أبيض وأسود، فالاختلاف فى مجتمعنا أصبح صعبا، إما أن يسر الفرد مع الجماعة وينساق لكل آرائها ويرتكب نفس سلوكياتها، وإما أن يصبح مجنونا متلونا وغيرها من التوصيفات. قال الدكتور صفوت العالم، أستاذ الإعلام السياسي بجامعة القاهرة، إن الخطاب الإعلامي لعب دورا رئيسيا في حالة التبلد التي وصل إليها الشارع المصري، فأصبحنا نتساءل هل مات "تحرير أم رابعة"؛ نظرا لغياب الانتماء واللعب على أوتار الانقسام والتقسيم، والبعد عن دعم وتعظيم المفهوم الحقيقي للمواطنة، بأن نختلف دون أن يعتدي بعضنا على بعض، وتصل إلى القتل، فلابد أن يتجاوز الإعلام عن التقسيم سواء إخوان أو معارضة أو غيرها من الفصائل، وتنتهي حالة السخرية من الغير واستحقاره وتصويره بشكل سلبي. وأضاف "العالم" أن قتل المصري ليس له تبرير أيا كان الدافع، وطالما وصل الأمر لقتل المواطنين في هذا الشهر ودون مراعاة لحرمته وفضائله، والأسوأ من ذلك أن يفقد المصريون حالة التعاطف والحداد التي كانوا يعلنوها بمجرد سقوط قتيل واحد، فهذا نذير شؤم علينا جميعا، ونخشى أن نتجرد من إنسانيتنا بسبب الخلافات السياسية. تابع: يجب أن تتخذ قرارات ملائمة لخطورة المرحلة المقبلة، و نسعى لصياغة جديدة للمصالحة والوفاق والحفاظ على وحدة الوطن؛ لأن الانقسام هو الذي تسبب في هذه الحالة، لافتا إلى أن هناك مخاوف عند الإخوان أو المنتمون لتيار الإسلام السياسي من أن تكون حياتهم رخيصة لهذه الدرجة، ويفقدوا حتى تعاطف إخوانهم معهم. وأكد أن مصر تستوعب الجميع ولا سبيل لإقصاء أي طرف، ولابد أن ندرك مفهوم المواطنة وأننا متساويين بالرغم من اختلافنا، ونتعلم ثقافة الاختلاف التي افتقدها المصريون، فالكل له الحق في أن يحيا بسلام ونترك الحساب لله ولا نعين من أنفسنا مراقبين على تصرفات الغير. ويرى الدكتور محمد رأفت عثمان، أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون، عضو هيئة كبار العلماء، أن الفضائيات كان لها نصيب الأسد؛ بسبب فوضى الفتاوى التي كنا نعيشها والتحريض على قتل المعارض واستباحة دماء المؤيد، دون الاعتماد على المنهج الإسلامي الوسطي وسماحته، كما أن أجهزة الإعلام والصحافة تقع في أخطاء بأنها تعتمد علي الذين يشيعون الفكر الذي يحدث فرقعة دون الإسناد إلى أهل العلم والتخصص. الطب النفسى: المصريون يعيشوا حالة من النفى والتعامى المتبادل الدين: نحتاج إلى خطاب وسطى يؤكد على حرمة الدم واحترام الآخر