طرح الفريق أول عبد الفتاح السيسي -القائد العام للقوات المسلحة المصرية- دعوته المثيرة للجدل لحسم الأوضاع السياسية المعقدة منذ 30 يونيو في مرحلة فارقة فرضت خيارات حدية على كافة الفرقاء السياسيين في ظل تصاعد أعمال العنف والإرهاب، والتهديدات، وانسداد أفق التسوية السياسية، ومن ثمّ جاء خطاب السيسي محملا برسائل ودلالات فاصلة حول نهج المؤسسة العسكرية في التعامل مع المعضلة السياسية الراهنة، ومحاولة تقصير أمد الصراع، والانتقال من وضع الدفاع للمبادرة بإنهاء الأزمة السياسية. تهديدات مصيرية لا ينفصل خطاب الفريق أول عبد الفتاح السيسي عن التحولات الفارقة في المشهد السياسي المصري مع تصعيد حركة الاحتجاجات من جانب مؤيدي الرئيس السابق، وتفجر أعمال العنف، والمواجهات الدامية في كافة أرجاء الجمهورية، وارتبطت هذه التحولات بعدة أبعاد رئيسية: - تصاعد العنف: حيث كشفت إحصاءات أن ضحايا أعمال العنف منذ 26 يونيو الفائت تجاوزت حوالي 218 قتيلا منهم حوالي 46 في سيناء و53 في أحداث الحرس الجمهوري و40 مواطنًا في محيط ميدان النهضة بالجيزة، فضلا عن 3 آلاف مصاب، ولعل تكرار الاشتباكات الدامية بين المتظاهرين والأهالي في الجيزة وقليوب والمنصورة، ومحاصرة المنشآت الحيوية، وقطع الطرق الرئيسية؛ أدت إلى تصاعد عدد الضحايا، وخاصة في ظل استخدام الأسلحة والرصاص الحي في الاشتباكات، فضلا عن محاولات اختراق الميادين مثل ميدان رمسيس والجيزة، وفض تجمعات المعارضة على غرار اقتحام ميدان الساعة في دمياط، ومحاولة اقتحام الاعتصام في ميدان التحرير. بينما يُعد استخدام العبوات الناسفة في استهداف قسم أبو صرير بالإسماعيلية وقسم شرطة أول المنصورة طفرة خطيرة في تكتيكات العنف، ويرتبط ذلك بتصاعد العمليات الإرهابية في شمال سيناء، واستهداف نقاط التمركز الأمنية والمنشآت العامة في رفح والعريش، فضلا عن استهداف المدنيين، واغتيال بعض الكوادر الأمنية. - تكتيكات الحشد العشوائي: باتت جماعة الإخوان المسلمين تلجأ لتكتيكات جديدة في استنزاف قدرات قوات الشرطة والجيش من خلال تنظيم مسيرات غير معلومة الاتجاه، أو تقسيمها لمسيرات فرعية ذات اتجاهات مختلفة في محاولة لتشتيت جهود التأمين استلهامًا لأحداث 28 يناير، والتركيز على المناطق الشعبية، ومناطق تمركز التيارات المدنية لافتعال اشتباكات دامية، مثل ميادين رمسيس والتحرير والجيزة، ومناطق مثل شبرا وإمبابة، وتنظيم مظاهرات في مناطق مختلفة تتباعد جغرافيًّا لإرباك الشرطة، فضلا عن استهداف السفارات الأجنبية لتصعيد الضغوط الخارجية على المؤسسة العسكرية، وتكرار اختطاف رجال الشرطة، وما كشفته بعض المصادر من مخططات لاقتحام منشآت حيوية مثل جامعة الدول العربية، واتحاد الإذاعة والتليفزيون، والمحكمة الدستورية العليا، ومعسكرات الأمن المركزي. - صناعة النموذج السوري: تكشف تصريحات قيادات جماعة الإخوان المسلمين عن النزوع المستميت لمحاكاة النموذج السوري، وخاصة الادعاء بوجود انشقاقات في القوات المسلحة، أو استضافة بعض من يرتدون الزي العسكري القديم في التظاهرات؛ إلا أن التطور الأهم تمثل في عقد ممثلي التيارات الإسلامية بمجلس الشورى اجتماعًا في رابعة العدوية، وإعلانهم تكوين حكومة موازية، بما يهدد بتقويض مسار المرحلة الانتقالية في حال اعترفت بعض الأطراف الدولية بهذه الحكومة. - الضغوط الدولية: أدى استهداف مؤيدي الرئيس السابق للاستقواء بالخارج إلى إعلان الولاياتالمتحدة تقسيم المعونة الأمريكية لمصر إلى أربع شرائح، وربطها بالتقدم في المسار الديمقراطي، وتأجيل تسليم طائرات F-16 لأجل غير مسمى، وتصعيد الضغوط الدولية للإفراج عن الرئيس السابق التي كان آخرها تصريحات الخارجية القطرية التي اعتبرت استمرار احتجاز مرسي تهديدًا لمكتسبات ثورة يناير. رسائل حاسمة في إطار هذا السياق الضاغط، تضمن خطاب الفريق السيسي عدة رسائل ذات دلالات مهمة للشعب والقوى السياسية وجماعة الإخوان المسلمين والقوات المسلحة. - استنهاض الإرادة الشعبية: تمثلت الرسالة الأهم في مطالبة المصريين بالنزول للميادين لتفويض القوات المسلحة بالتصدي للعنف والإرهاب المُحتمل، والهدف هو تأكيد أن الشعب هو مصدر الشرعية الرئيسي، وأنه يدعم استمرار المرحلة الانتقالية، ومواجهة العنف الذي تصاعدت حدته في الآونة الأخيرة، فضلا عن تأكيد الدعم الشعبي للاستحقاقات التي تم التوافق عليها في 3 يوليو، وبدت رسائل الحشد واضحة في دعوة للقوات المسلحة والشرطة والقوى السياسية والأزهر والكنيسة للانتباه والقيام بدورها في التصدي لدعوات الفوضى. - تدعيم الثقة: تضمن الخطاب تأكيدات على أواصر الثقة بين الشعب والمؤسسة العسكرية، بداية من كشف محاولات المؤسسة العسكرية لرأب الصدع بين القوى السياسية، وتعزيز المصالحة الوطنية، ولنصح الرئيس السابق بتفادي الانقسام الوطني نتيجة مشروع المغالبة، واستعداء مؤسسات الدولة، وتحويل الخلافات السياسية إلى صراعات دينية طاحنة هدفها وصم الخصوم بمخالفة الشريعة، نافيًا الاتهامات التي يرددها مؤيدو الرئيس السابق بالتآمر، بالتأكيد على إطلاع الرئيس السابق على كافة بيانات القوات المسلحة. - طمأنة للقوى السياسية: تضمن الخطاب عدة رسائل موجهة للقوى السياسية الداعمة للاستحقاقات السياسية الواردة في خريطة الطريق التي تم وضعها في 3 يوليو، أولها التأكيد على التمسك بهذه الاستحقاقات، وإدارة عملية انتقال ديمقراطي للسلطة، وإجراء انتخابات تشرف عليها مختلف الأطراف الدولية تأكيدًا لنزاهتها، وأن هناك فرصة سانحة للمشاركة في استحقاقات المرحلة الانتقالية لجميع القوى السياسية بلا استثناء، بما فيها جماعة الإخوان المسلمين والتيارات المتحالفة معها، في ظل إشارات مهمة للمصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية وأولوياتها ونبذ العنف واحترام الاختلاف. - تأكيد تماسك الصفوف: وجه الفريق السيسي رسالة للقوات المسلحة وللشعب المصري حول تماسك صفوف القوات المسلحة، وأنها لا تأتمر سوى بإرادة المصريين، قاطعًا بالنفي التام لشائعات الانقسامات التي يتم ترويجها من مؤيدي الرئيس السابق بالقسم على أن "الجيش المصري على قلب رجل واحد" ولم يخلُ خطاب الفريق السيسي من رسائل الاعتزاز بالقوات المسلحة، ودورها الوطني، وعلاقاتها الراسخة بالشعب المصري، وقيم الشرف العسكري، والدفاع عن الصالح العام في تكريس لثوابت نموذج الجيش الحارس. - ردع العنف: وتمثلت هذه الرسالة بتقديم العزاء للمصريين في الضحايا الذين سقطوا في الاشتباكات الدامية، منددًا بتهديدات العنف والفوضى التي وجهتها له سابقًا قيادات جماعة الإخوان المسلمين، وترويج الشائعات حول انشقاقات القوات المسلحة، مستعجبًا من مدى تناقض منطق التيارات الدينية في فرض خيارات حدية على المصريين إما الحكم واحتكار القوات المسلحة أو تدمير الدولة وتفكيك المؤسسة العسكرية، ومن ثمَّ جاءت المطالبة بالتظاهر يوم 26 يوليو القادم لتفويض القوات المسلحة بدعم شعبي في التصدي للعنف والإرهاب، في إنذار مباشر لدعاة الفوضى، مع تأكيد عدم وجود أي عداء لأي طرف، وهو ما يرتبط بإحجامه عن الاتهام الصريح لجماعة الإخوان المسلمين وحلفائها بالإرهاب، أو وجود أية نية لفض الاعتصامات بالقوة. - احتواء الضغوط: تضمن الخطاب رسالة مباشرة حول أن الهدف من الدعوة للتظاهر هو توضيح اتجاه إرادة الشعب، ودعمها للقوات المسلحة في مواجهة دعوات العنف والإرهاب، لاحتواء الضغوط الخارجية على المؤسسة العسكرية، وتقويض محاولات مؤيدي الرئيس استدعاء هذه الأطراف لتعقيد المشهد المصري، وتعزيز حظوظها التفاوضية عبر تدويل القضايا الداخلية. احتمالات التصعيد والاحتواء ينطوي خطاب الفريق السيسي على دلالات فاصلة حول المرحلة الفارقة التي تمر بها الدولة المصرية، وقدرتها على مواجهة تحديات تهدد بقاءها وتماسكها، وتتمثل أهمها في مركزية دور المؤسسة العسكرية في إدارة المرحلة الانتقالية، وهو ما يستدل عليه بمبادرتها المطالبة بالتفويض الشعبي للتعامل مع الإرهاب؛ حيث لم تصدر الدعوة من الرئيس المؤقت أو مجلس الدفاع الوطني وفق المنصوص عليه في الإعلان الدستوري الحالي، وربما يرتبط ذلك باقتصار هذه المبادرة على الدعوة للتظاهر السلمي دون اتخاذ أي إجراءات أمنية تجاه المعتصمين. بيد أن الخطاب يضع القوى المدنية في اختبار عصيب نتيجة توجيه الخطاب مباشرة للشعب، واستغلال الفريق السيسي للشعبية التي يحظى بها لدى قطاعات واسعة في الشارع المصري، بما أثار مخاوف بعض هذه التيارات من تعزيز الشرعية السياسية لتدخل المؤسسة العسكرية، فضلا عن أنه يفرض خيارات فاصلة على هذه القوى ما بين الاصطفاف خلف المؤسسة العسكرية، وتحمل المسئولية، أو التفريط في استحقاقات 30 يونيو، وتحمل تبعات تصاعد العنف، والاستقواء بالخارج، ومحاولات شق صفوف القوات المسلحة، وإعادة إنتاج النموذج السوري. بينما تواجه جماعة الإخوان المسلمين ضغوطًا أكثر حدة عقب تصلب مواقف قيادات الجماعة في التفاوض حول المرحلة الانتقالية، ورفض كافة مبادرات المصالحة الوطنية، فما كان من الفريق السيسي سوى اللجوء لتحكيم الشعب في مستقبل الصراع السياسي في مصر، وبيان اتجاه الإرادة الشعبية، وخاصةً في ظل خطاب التصعيد الداعي للعنف وإثارة الفوضى الذي يتبناه بعض مؤيدي الرئيس السابق، بما يعني أن البقاء السياسي للتيارات الدينية أصبح على المحك، وأن الاستمرار في العنت قد يؤدي إلى نزع الشرعية القانونية عن كافة أنشطتها، وحظر نشاطها السياسي، وربما عودة الملاحقات الأمنية والقضائية لعناصرها، بما قد يدفعها للتصعيد، وافتعال الصدامات العنيفة لتعزيز المظلومية التاريخية، وتبرير أخطاء القيادات أمام كوادر التيارات الدينية ومريديها. وختامًا.. قد تحمل مظاهرات يوم الجمعة القادمة جديدًا على مستوى المصالحة الوطنية؛ إذ ربما تؤدي ضغوط الحشود الشعبية المؤيدة للقوات المسلحة إلى تغير جوهري في مواقف قيادات جماعة الإخوان المسلمين، وبدء التفاوض الجاد حول الانخراط في العملية السياسية، أو على الأقل انشقاق بعض كوادر الجماعة خوفًا من دوامة الفوضى التي تكتنف مسار التصعيد، الاحتمال الآخر الأكثر خطورة يتمثل في الاستمرار في التصعيد للحفاظ على تماسك الجماعة، وإفلات القيادات من المحاسبة، بما قد يؤدي إلى إقصاء الجماعة مجتمعيًّا وسياسيًّا، والتورط في مواجهة مباشرة مع القوات المسلحة تجهز على ما تبقى من وجودها السياسي. دعوة التظاهر لاحتواء الضغوط الخارجية على المؤسسة العسكرية، وتقويض محاولات مؤيدي الرئيس استدعاء هذه الأطراف لتعقيد المشهد المصري، وتعزيز حظوظها التفاوضية عبر تدويل القضايا الداخلية. ربما تؤدي ضغوط الحشود الشعبية المؤيدة للقوات المسلحة إلى تغير جوهري في مواقف قيادات جماعة الإخوان المسلمين، وبدء التفاوض الجاد حول الانخراط في العملية السياسية، أو على الأقل انشقاق بعض كوادر الجماعة خوفًا من دوامة الفوضى التي تكتنف مسار التصعيد،