المحور الثاني: الفكر أما الفكر الإنساني فهو مجموع العلوم والمعارف التي اكتسبها الإنسان من خلال عملية التفكير، سواء كان تفكيرا صحيحا أو غير صحيح. ويمكننا تحليل أي فكر إلى ثلاثة مستويات مترابطة: الأول: المستوى المنهجي المعرفي وهو المنهج المعرفي الذي يعتمده الانسان يمثل اسلوبا وطريقا لبناء صرح منظومته الفكرية ويعتمد عليه ابتداء في التعرف على الواقع الموجود،وبتعبير اخر يمكن القول ان المنهج المعرفي هو الطريقة التفكيرية التي يعتمدها الباحث في بحثه محاولا من خلاله ادراك الواقعيات على ما هي عليها ، ويتضمن المنهج المعرفي مناهجا عدة بحسب ما توصلت اليه المعرفة الانسانية الى يومنا هذا كالمنهج الحسي الاستقرائي أوالتجريبي الذي يقتصر عليه الحسيون الماديون والمنهج العقلي البرهاني الذي يعتمده الحكماء، والمنهج النقلي الذي يقتصر عليه أصحاب الاتجاه السلفي الإخباري، والمنهج الإشراقي القلبي الذي يعول عليه أصحاب الاتجاه الصوفي العرفاني . ويمثل المنهج المعرفي أهم أجزاء الفكر الإنساني لاسباب عدة منها انهيشكل الأساس والمنطلق الاول لعملية التفكير والتحقيق في الابحاث العلمية اذ لا يمكن لانسان ان يتقصى حقيقة من الحقائق من دون ان يكون قد خط له طريقا في كيفية التعامل معها واستكشاف واقعها والا كان بحثه بحثا عقيما غير موصلا الى نتيجة يرتضيها العقلاء والمفكرون. ومنها انه يمثل المحور والقطب الذي يبني عليه الإنسان منظومته الفكرية والعقائدية بحيث اما ان يؤثر سلبا او ايجابا على مصير عقيدته ورؤيته الكونية،لذا ومن هذا المنطلق قيل ان باختلاف المناهج المعرفية تختلف بطبيعة الحال الآراء والأفكار والمذاهب الفكرية والدينية. ومنها انه دافع ومبعد للمحقق عن المغريات الخارجية والدوافع النفسية والمواريث العلمية بحيث اذا خط الباحث له منهجا وقد اوصله الى نتائج ما فانه يقبلها دون ادنى تردد لاعتقاده بصحة ما هو سائر عليه. ومنها انه يمثل فيصلا وحكما ومرجعا عند اختلاف وجهات النظر وبدونه التوصل الى حل الخلاف دونه خرط القتاد . وهذا المقام المعرفي ،وللأسف الشديد يجهله أو يغفل عنه أكثر المفكرين،وهو مهمل في أكثر مباحثنا الفكرية،حيث يحاول كل مفكر أن يستدل على أراءه ومعتقداته الاعتقادية أو الايديولوجية بمنهجهه المعرفى الخاص به،دون أن يستدل على صحة هذا المنهج أولا،ويتوهم أنه معني فقط بالاستدلال لاغير ،وهو غافل عن أن الذى يعتمد على دليل غير معتبر في مورده كمن لادليل له الثاني: المستوى الفلسفي وهو المقام الثاني في الفكر ،والحاصل من استعمال المنهج المعرفي المعتمد عند الإنسان في النظر إلى الواقع والحياة والإنسان والعالم المحيط به فالفكر الفلسفي هوالمتعلق بالرؤية الكونية الكلية النظرية حول الإنسان والعالم والمبدأ والمنتهى، أو بعبارة أخرى يتعلق بكل ما هو كائن وموجود بالفعل في الواقع. وقد تكون الرؤية الكونية مادية لا تؤمن بمبدأ ولامعاد إلهي كما عليه الفكر المادي حيث منطلق فكرهم النظري واسلوبهم العملي انما هو منكب على نظريات ومسائل عملية تصب في منفعة هذه النشأءة دون النظر الى غيرها بل ان غيرها غير موجود بحسب اعتقادهم وما ذلك إلا لأنهم أسسوا رؤية كونية قائمة على أساس عدم الايمان بوجود ما هو غير مادي ، وقد تكون إلهية على عكس ذلك، سواء كانت فلسفية أو إخبارية نصية أو عرفانية صوفية، وتشكل أصول الفكر أو الاعتقاد. وهذه الرؤية الكونية الفلسفية موجودة لدي كل إنسان ، وإن كان ربما يغفل عنها في كثير من الأحيان أيضا أثناء بحثه الايديولوجي كما سيأتى ،ويتوهم عدم الارتباط بينهما،على الرغم أنها تتحكم وتؤثر بنحو كبيرفي فكره العملي وتنعكس بعد ذلك على ممارساته السلوكية الثالث: المستوى الإيديولوجي وهو المتعلق بالنظام التشريعي العملي عند الإنسان على المستوى الفردي والاجتماعي وبعبارة أخرى يتعلق بما ينبغي أن يكون عليه الإنسان والمجتمع في سلوكياته، حيث يشتمل على النظام الأخلاقي والاجتماعي والسياسي، ويسمى بفروع الفكر أو الاعتقاد. والجدير بالذكر، أن هذه الأجزاء الثلاثة للفكر بينها ارتباط سببي وثيق حيث يؤثر المنهج المعرفي على طبيعة الرؤية الكونية، التي تنعكس بدورها على الإيديولوجية والنظام التشريعي القيمي في الفكر الإنساني ،والذي ينعكس بدوره على مستوى الممارسة والسلوك الاختياري للإنسان والمجتمع البشري . فمثلا من اعتمد على المنهج الحسي التجريبي(imperical) فسوف تتشكل لديه رؤية كونية مادية غير دينية ،حيث إن الدين يتعلق في مبادئه بأمور غيبية من المبدأ الإلهي والوحي السماوي والمعاد بعد الموت،وهى كلها أمور لا يمكن إدراكها بالحس أو التجربة الحسية،وبالتالي فلا يمكن أن يعتقد هذا الإنسان الحسي بالأمور الغيبية أو بمبدأ ومعاد إلهيين ،بل بمبدأ ومعاد ماديين ،أي من التراب وإلى التراب. وهذه الرؤية الكونية المادية سوف تقتضي بطبيعة الحال أيديولوجية علمانية متحررة عن القيم الدينية والأحكام الشرعية. وعلى العكس من ذلك لو اعتمد الإنسان على العقل البرهانى فسوف تتولد لديه رؤية إلهية وإيديولوجية دينية شرعية. فالفكر الإنساني إذن عبارة عن سلسلة متصلة الحلقات تمثل مبادئ الفعل الاختياري[1]لدى الإنسان فتؤثر على سلوكه العملي وتعين مصيره الوجودي، وترسم له طريق السعادة أو الشقاء. ومن أجل ذلك كله فقد اعتمد الحكماء بنحو حصري على المنهج العقلي البرهاني الموضوعي في التعرف على الواقع،وبناء رؤيتهم الكونية النظرية ،وايديولوجيتهم العملية القيمية،للوصول إلى منظومة معرفية متكاملة،ومنسجمة مع الواقع الموضوعي؛لتكون منطلقا آمنا لسلوك الإنسان في هذه الحياة الدنيا،ولنحقيق السعادة الحقيقية. أما المنهج المعرفي في مراكزنا الأكاديمية فهو المنهج الحسي الاستقرائي الذي وضع أساسه المفكر الانجليزي (فرنسيس بيكون ) في القرن السابع عشر الميلادي،وسماه بالمنهج العلمي الجديد،واعتمده كأساس للمنهج الدراسي الأكاديمي،ورفض المنهج العقلي البرهاني الميتافيزيقي[2]. ________________________________________ [1] -أن للفعل الاختياري مبادئ قبل تحققه حاصلها أربع ،قال الشيخ الطوسي في شرحه على الإشارات والتنبيهات "و اعلم أن لهذه الحركات مبادي أربعة مترتبة أبعدها عن الحركات هو القوة المدركة و هي الخيال أو الوهم في الحيوان و العقل العلمي بتوسطهما في الإنسان و تليها قوة الشوق فإنها تنبعث عن القوى المدركة و تنشعب إلى شوق نحو طلب إنما ينبعث عن إدراك الملائمة في الشيء اللذيذ أو النافع إدراكا مطابقا أو غير مطابق و تسمى شهوة و إلى شوق نحو دفع و غلبة إنما تنبعث عن إدراك منافاة في الشيء المكروه و الضار و تسمى غضبا و مغايرة هذه القوة للقوى المدركة ظاهرة و كما أن الرئيس في القوى المدركة الحيوانية هو الوهم فالرئيس في المحركة هو هذه القوة و يليها الإجماع و هو العزم الذي ينجزم بعد التردد في الفعل و الترك و هو المسمى بالإرادة و الكراهة"الإشارات والتنبيهات ج2 ص473. [2]تاريخ الفلسفة الحديثة ص47