خلال ثلاثون عاماً من حكم مبارك حافظت القوات المسلحة على صورتها المبهمة تماماً بالنسبة للمجتمع المصري، كما حرصت على الابتعاد تماماً عن المشهد السياسي وأصبح كل ما يردد عنها من قبيل الأساطير أو "حكاوي القهاوي" حول اقتصاد الجيش والشركات المملوكة له وولاء قياداته وعلاقته بالولاياتالمتحدة وإسرائيل، وانتشرت معلومات متناقضة روجها الإعلام الحكومي وقتذاك للحفاظ على الصورة الذهنية الغامضة للمؤسسة العسكرية باعتبارها الحامي لشرعية الرئيس،وقد كانت كل علاقتها بالشعب المصري التجنيد الإجباري والعروض العسكرية في المناسبات الرسمية بينما يجهل الجميع تماما أسلوب إدارة المؤسسة وتفاصيل ميزانيتها وعقيدتها القتالية والعلاقة بينها وبين باقي مؤسسات الدولة. ولكن بدأت كل تلك التفاصيل تنكشف تباعا بعد خلع مبارك وإعلان المجلس العسكري نفسه وصيا على الثورة، وترددت في الإعلام وقتها جملاً مثل "العمود الأخير للخيمة" و"العمود الفقري للمجتمع المصري" و"النواة الصلبة للدولة المصرية"، وبدأ يهتم الجميع بجميع التفاصيل التي تتعلق بالجيش المصري وبدأت فعاليات الثورة تجري اختبارات قاسية للمؤسسة وقادتها، واستمر توتر العلاقات بين الشعب والجيش عاما تقريبا حتى تأكد الجميع من الحقيقة المرة، فقد ابتعد الجيش المصري تماماً عن دوره في الحفاظ على أمن الوطن واستكان إلى فترة السلام وترك تصنيع الأسلحة وتوفير قطع الغيار وإعداد الخطط العسكرية والتدريبات واكتفى باستيراد الأسلحة ومستلزماتها من الولاياتالمتحدة، وتفرغت القوات المسلحة المصرية لمهمتها المقدسة ألا وهي تصنيع المكرونة والمبيدات الحشرية والمياه المعدنية وغيرها من الصناعات الإستراتيجية الخطيرة جدا على الأمن القومي. تساءلنا عن العقيدة الحقيقية لجنود الجيش المصري بعد أحداث 9 أبريل ومجلس الوزراء من الاعتداء على المدنيين، كما تساءلنا عن سر إصرار القادة العسكريين على وضع معين للقوات المسلحة بالدستور واستمرار غموض علاقة المؤسسة العسكرية بمؤسسات الدولة ورفض رقابة المؤسسات المنتخبة عليها. كانت حادثة اختطاف الجنود المصريين في سيناء الخاتمة للأسطورة التي صدقناها لعشرات السنين، كشفت الحادثة لنا عن الحقيقة المرة التي كانت واضحة لنا تماما ولكننا أصررنا على الالتفات عنها، حقيقة أن المؤسسة العسكرية هي إحدى مؤسسات دولة مبارك وكان قائدا أعلى لها اختار قياداتها بنفسه وتشربت منه ومن نظامه ما تشربت منه باقي المؤسسات، أصيبت بأمراض الكسل والتراخي وعدم الانضباط ونخر الفساد في عروقها وازدادت الفرصة مع دخولها سوق الصناعة والتجارة والمقاولات مما فتح الباب على مصراعيه أمام دخول قادة المؤسسة إلى شبكة مصالح نظام مبارك واختلطت أوراقها وتلونت بلون الحزب الوطني. لقد سقطت الخيمة على رؤوسنا بعد أن نخر السوس أعمدتها وابتلعت الرمال أوتادها وهلك قماشها، فتحولت إلى خرقة بالية مهترئة لا ينفع معها ترقيع، لقد عشنا خدعة عظيمة تشبه روايات "نبيل فاروق" وأصررنا على تصديقها رغم تأكيد جميع المؤشرات كذب الأسطورة، انه ما من نواة صلبة في الدولة لأنه لا توجد دولة ليس لدينا سوى عدد من الدويلات والجزر التي تعمل بمعزل عن غيرها، فقد تحولت المدرسة إلى دويلة والمستشفى إلى دويلة والمصنع والقرية والقسم، أصبح لدينا عدد لانهائي من الجزر المنعزلة داخل الدولة المصرية التي فقدت الرابط بينها بسقوط السلطة وإصرار الحزب الحاكم حاليا على هدم الدولة المصرية لبناء دولته المستقلة التي تحقق مصالحه وتجسد أطماعه، نتاجاً لثلاثون عاما من تجريف العقول والمناهج والأفكار للدولة وللمجتمع. أيها السادة لا تندهشوا من جرأة الجماعات على الدولة لدرجة أن يختطف جنود للجيش على أراضيه في المنطقة التي يتغنى دائما بتحريره لها ويمنع المصريين من الولوج إليها أو تعميرها أو تملكها بادعاء حماية الحدود الشرقية وجعلها منطقة أمان، ليس غريبا أن تعلن الجماعات الإرهابية وعصابات المخدرات سيطرتها على ثلث مساحة مصر طالما فقدت الدولة هيبتها، هيبة الدولة التي صورها مبارك في خوف الشعب من فرد الشرطة ونسي الجميع أن هيبة الدولة تستمد من حرصها على قيم الحق والعدل والمواطنة، هيبة الدولة التي تستمدها من شرعيتها وحرصها على كرامة أبناءها. هلل الكثيرون عند عودة الجنود المختطفين بعضهم لمرسي والأخرون للسيسي بينما غضوا الطرف تماما عن طريقة الإفراج عن الجنود بالتفاوض مع الجماعات الإرهابية ومساومتهم لاسترداد الجنود حرصا على الشكل العام للنظام، وهدأت الأصوات ومرت الموجة بسلام وخرج الرئيس ووزير دفاعه يزهو بانتصار زائف، ولكن ظلت الأزمة بدون حل ليتكرر السيناريو ويقتل ضابط مكافحة الإرهاب والمكلف بالتحري عن خاطفي الجنود، قتل الضابط في وضح النهار بسبع رصاصات ثم سرقة هويته وسلاحه الميري وكالعادة اختفاء الفاعلين، وتبقى سيناء أسيرة الجماعات الإرهابية ففي الوقت الذي تحشد فيه الجماعات أتباعها في سيناء لتدريبهم وتنظيمهم ،لا يستطيع الجيش المصري إدخال مجند واحد دون إذن مسبق من الكيان الإسرائيلي. أخطاء بالجملة وقلة خبرة وغرور القوة وغيرها من الأمراض التي تأكدنا من تغلغلها بالمؤسسة العسكرية، ولكن تظل الأصوات المنادية بعودة المؤسسة العسكرية الى المستنقع السياسي كبديلا عن وجود الاخوان في السلطة "حال سقوطهم في 30 يونيه" ،دون حساب لقدرة المؤسسة فعليا على إدارة فترة انتقالية جديدة في ظل صراع داخلي مع أنصار جماعة الإخوان وفي ظل قضايا شائكة تخص الأمن القومي المصري في سيناء وليبيا وأثيوبيا والسودان، بالإضافة الى ظروف اقتصادية خانقة وشباب خارج السيطرة. يجب ألا نعتمد على مؤسسة أو حزب أو جماعة للحفاظ على مصالحنا، بل يجب أن نجعل رهاننا على الشعب المصري، فهو الوحيد صاحب القرار والقدرة على الفعل، هو من يقدر أن يسمح أو يمنع ،يعفو أو يبطش، التحموا مع جموع الشعب المصري واحتموا به وارفعوا رأسه وأعلوا من صوته،فالثورة هي السبيل بعد أن تفرقت السبل.