كشفت حادثة خطف الجنود من قبل جماعات مسلحة بسيناء ثم إطلاق سراحهم، عن بواطن كثيرة، قد تكون خطوطها العامة مفهومة ولكن التفاصيل الكامنة تحت السطح مثيرة للتحليل والتدقيق وأكثر خطورة ودلالة، حيث إن حكم الإخوان المسلمين وعلاقتهم الوطيدة الظاهرة بقادة الجيش والداخلية وأمريكا وإسرائيل واتصال هذا كله بجوانب حادث الخطف - قد تكون محددات واضحة لإطار فهم هذا الحدث، حيث إنه الأكبر فجاجة منذ وصول مرسى إلى الحكم. من المعلوم أن شبه جزيره سيناء، خصوصاً شمالها المتاخم لقطاع غزة، قد أصبح مرتعاً لكل التنظيمات الجهادية والتكفيرية، التى تستخدم السلاح لفرض الفكر والإخضاع، وتخرج الجميع من الملة، وتعادى الدولة والقانون على أساس أنهما (طاغوت) العصر الحديث، وبذلك يصبح الخطف والقتل والتهديد والترويع مرضاة لله فى نظرهم! وتتنوع تلك التنظيمات فى انتماءاتها الدولية، كما ترتبط بقرابة وزمالة مع أعضاء التنظيمات السياسية الطافية الآن على السطح، ومنهم شخوص يمارسون العمل السياسى العلنى ومنهم أيضاً المفرج عنهم بعفو رئاسى! ومن المستقر الآن بالتجربة والزمن أن نظام مرسى وكل ما يتصل به من أجهزة ومؤسسات وجماعات، يتعامل بأرْيحية مع كل ما يتصل بأنشطة ومحاور حركة الإرهاب فى سيناء، إلى الحد الذى تذكر فيه المؤسسات السيادية أنها تعرف كل أسماء الخاطفين والمجموعات المسلحة، ويؤكد الرئيس حرصه على سلامة محيط حركة الجماعات الإرهابية لأنها تتحرك بين القبائل والعواقل فى سيناء وتنتمى إلى بعضها! وهنا يشير الرئيس ويفصح دون أن يدرى عن أنه لا يعرف دولة القانون ولكنه ينتمى إلى جماعات العشيرة والقبيلة والدوائر التى تسمى نفسها إسلامية، وهى سياسية بالأساس، ولا تعترف إلا بالغنائم فقط، ولا تحتفى إلا بالتمكين لها وحدها، ولقد اختزل الرئيس هنا كل الدولة وسيادتها فى طيات إرضاء الموالين والجهاديين، وغلّب مصالحه ومصالحهم على مصلحة الدولة العليا والأمن القومى الذى يسبح فوق أخطار متعددة. حينما تحدث الرئيس بعد خطف الجنود وطالب بالحفاظ على أرواح الخاطفين والمخطوفين فى سابقة دولية لم ينطقها رئيس جمهورية الموز! كان يعنى فعلاً حفاظه على حلفاء الغد الذين يدخرهم يوماً فى مواجهة مع الدولة إن عصت على التمكين والانحناء، لأنه حينما يساوى رئيس مسئول بين الضحية والجانى فهو بذلك يضع خطاً فاصلاً بينه وبين بواعث الأمن القومى ومسئوليته السياسية التى وكّله فيها ناخبوه، ما يرسخ أيضاًً دوافع سحب الثقة من الرئيس عند الكثير من المصريين. وقد بدأ المشهد خلافياً، حينما تسارعت قوى الجيش فى تحريك كتائب وفرق وسلاح ثقيل للتعامل مع الخاطفين، ثم وقفت لأيام معرضة أرواح المخطوفين للخطر فى انتظار إشارة الرئيس، الذى ترك الدولة الرسمية فى أدق اللحظات واتجه إلى جماعات سلفية وأنصار سنة وغيرها من الأسماء، لتحل الأزمة وتضع السيف على رقبة القوات فلا تتحرك للقصاص من الخاطفين، ولا تبادر إلى إيقاع أقصى ردع بمن «التهم» هيبتها، وتمثل ذلك فى اختطاف أفراد لهويتهم العسكرية فقط، ما فيه الكثير من العداء مع المؤسسات السيادية، ولكن فى الأخير رضخ الجيش إلى تحركات تيارات الإسلام السياسى، وإلى الآن لم يسترد كرامته وهيبته التى اغتيلت على يد الخاطفين الآثمين. إلى هنا والمشهد عبثى ومتضارب فى ظل قلة خبرة سياسية من الجميع، ولكنه، الحقيقة، تحول إلى مشهد مبالغ فيه ومثير للدهشة، حينما تم الاحتفال بتحرير الجنود فى مشهد مهيب تتحرك فيه كل الدولة ممثلة فى نظامها السياسى وأجهزتها السيادية إلى الطائرة فى مشهد (نهار خارجى)، ثم يخرج جنودنا المطلق سراحهم فيستقبلهم الرئيس استقبال الفاتحين فى ظلال من أغانٍ تلهب الحماسة والرفعة الوطنية من عينة «نصرة قوية وفرحة وألف سلامه»! والمتابع من المواطنين المصريين الطبيعيين يجد نفسه لا يفهم ويتساءل بسذاجة: «طيب وأين الخاطفون؟ وأين أيضاًً بواعث الفرح والزهو والتحرك فى صف مهيب إلى طائرة بها مخطوفون جاد علينا بالإفراج عنهم تنظيمات مسلحة تلوك يومياً هيبة واستقلال الدولة والأمن القومى؟!». مشهد خروج المخطوفين وذوبان الخاطفين يذكرنا بالفيلم الكوميدى الساخر «الإرهاب والكباب»، حينما خرج بطلنا عادل إمام، وهو الإرهابى والخاطف فى الفيلم، تحت سمع وبصر كل الأجهزة الأمنية، وسط من خطفهم وروّعهم وهدد أمنهم... وأتصور أن إعادة هذا الفيلم بعد عشرات السنوات سيكون باسم «الإرهاب والكباب.. والإخوان»! لقد كلفنا الإرهاب كثيرا حينما كان التعامل معه كملف أمنى فقط دون تفاوض وتقارب على يد مبارك، وسيكلفنا الآن أكثر حينما نتعامل معه كملف تفاوضى فقط دون ردع واعتبار للأمن القومى، وإن كان فى زمن مبارك يعزى فيه وجود الأنظمة الإرهابية إلى القهر والديكتاتورية والاستبداد، ففى زمن مرسى ستتوحش أكثر بسبب الموالاة والنصرة، والشكوك حول ادخارهم لزمن قد يستخدمون فيه كذراع ردع ضد الشعب وأجهزته الراسخة، وهذا سيكون فى القريب إن استمر هذا المسخ. فى النهاية، لست فى حل من الإعراب عن سعادتى بخروج الجنود سالمين، لأنه طبيعى وسلوك وطنى وإنسانى، ولكن الهواجس والمخاوف على أمن الوطن بالكامل تغرق فى بحر من الأحزان.