تصدم كلمة " الحرام" القاريء فهي لم تقترن أبدا بمهنة البحث عن المتاعب ولكنه العنوان الذي اختاره " سامي كمال الدين" الكاتب الصحفي بالأهرام لكتابه " الصحافة الحرام"،الكتاب الصادر عن دار النشر " كيان". أكسب كمال الدين علي كلماته طابعا أشبه بروايات الجاسوسية واللغة البوليسية فمنذ أول كلمة في الكتاب وأنت تتصفح مغامرة شائكة تتلهف لمعرفة نهايتها لمعرفتك أو لسماعك معلومات عما تقرأ ، فما فعله كمال الدين يثير فضول واندهاش أي قاريء لذكره أسماء بعينها اختصها بنقده وحكم عليها بالفساد ، فجرأة الكاتب هذه المرة تتمثل في أن من يتحدث عنهم أحياء يرزقون بل ويطلون يوميا علي القنوات الفضائية وهنا تكمن الإثارة. كما تشي كلمات الكاتب بأن ما خطه بيده يصرخ ،كما صرخ الشاعر الأندلسي وهو يبكي علي الحال الذي وصل اليه وطنه الأندلس بعد سبعة قرون أو يزيد مكث مجدا وتاريخا تتحاكي به أقلام الحسرة. ويتحسر كمال الدين أيضا منذ الغلاف الخارجي للكتاب علي " قفز الإعلاميون الذين تعاونوا مع نظام حسني مبارك علي الثورة وسرقوها من بين عيون شهدائها فأصبح من العجائب أن يتحدث عبداللطيف المناوي ومجدي الجلاد وعماد أديب ولميس الحديدي بلسان حال الثورة " وهذا هو الموضوع الرئيسي للكتاب ، فعبر مائتي صفحة يسرد كمال الدين تاريخ هؤلاء الإنتهازيين الذين كانوا بوقا لمبارك وابنه ونظامه وبعد سقوط النظام الفاسد الذين كانوا جزءا منه بل وساهموا في افساده ، باتوا يتحدثون الآن باسم الثورة بل ينفذون مخطط تخريب مصر ويبيعون الوطن في سوق النخاسة. يبدأ كمال الدين كتابه بسرده الموجز لتاريخ كبار الكتاب والصحفيين الذين وصفهم كمال الدين بأنهم تمتعوا بالموهبة والنفاق في الوقت نفسه وموسي صبري صاحب الأسلوب المتفرد ، الذي أحب المال والسلطان فتقرب من الرئيس السادات ، وكان جادا في خوضه للمعارك السياسية في النهار وما أن يأتي الليل حتي يبدأ في مكالماته الغرامية مع المطربات والفنانات بحثا عن الشهوة. ثم سليم اللوزي " رئيس تحرير الحوادث اللبنانية" الذي امتلك مذكرات " ثريا خاشقجي" المليئة بالفضائح والصور الخليعة ولكنه لم يكتبها وأخذ مائة ألف دولار ثمنا لسكوته. وفي الوقت الذي يتحسر فيه الكاتب علي ماأصاب صاحبة الجلاله وفقدانها للصحفي المحارب الذي لايقف علي أبواب السلاطين من أجل المال والجاه ، يفتش كمال الدين في صفحات تاريخ الصحافة ليجد الكثير من الشخصيات الذين آمنوا برسالتهم الصحفية واعتبروها رسالة إنسانية ، ومن هنا كان دورهم في كشف الفساد والوقوف في وجه السلطان " مثل إحسان عبدالقدوس الذي اكتشف صفقة الأسلحة الفاسدة التي تسببت في هزيمة 1948 ، ومحمد التابعي الذي كان يسقط وزارات ويهز حكومات بقلمه المحارب، جلال الدين الحمامصي صاحب القيم والمباديء، فاطمة اليوسف السيدة التي حجز علي ملابسها بسبب أموال الطباعة المتراكمة عليها، ومجدي مهنا الرجل الذي قال لا في ظل عنفوان النظام السابق من دون ادعاء أي بطولة. ولكن الكاتب يعود ليتحسر مرة أخري عندما ينظر الي التزييف الذي يسود المشهد الإعلامي فيقول " العملة الرديئة استطاعت طول الوقت أن تطرد العملة الجيدة ، فقد طغت العملة الرديئة علي السطح وسيطرت بشلليتها ومحسوبيتها وعلاقاتها مع الأجهزة الأمنية، لدرجة أن رئيس تحرير أهم صحيفة يومية مستقلة كانت تأتي له الأخبار من أمن الدولة عبر الفاكس ، وكان ينشرها كما هي سواء هجوما علي الإخوان المسلمين أو خيرت الشاطر، أو علي رجال أعمال يرغب جهاز أمن الدولة في تشويه سمعتهم، والمحزن أن هذا الرجل تحول فجأة الي مذيع في قناة خاصة يمتلكها رجل أعمال ، كانت لديه بعض الاستثمارات في الكويت ،وهو من قام بتهريب أموال جمال مبارك أثناء ثورة 25 يناير" الخطة الشيطانية يكشف لنا الكاتب خدعة الصحافة المعارضة والمستقلة التي نشأت في حضن النظام ، ويوضح لنا كيف نجحت الحكومة المصرية في تدجين جزء كبير من المعارضة ، بخطتها الشيطانية حيث كانت الحكومة تتحكم فيما يصل الي صحف المعارضة من إعلانات وتسيطر علي منافذ توزيعها ، الي جانب تحكمها في التجديد أو عدم التجديد بالقرارات التي تصدر من المجلس الأعلي للصحافة ، ومن ناحية أخري كانت تقوم بإغراء رئيس تحرير الجريدة المعارضة للعمل في إحدي صحف الحكومة مقابل مبلغ مالي كبير مع مواصلة عمله في الجريدة المعارضة ،وهنا تخلت الصحف المعارضة عن رسالتها الأساسية ، فنجد الأهالي مثلا التي كانت تتبني قضية الصراع الطبقي ، تبيع قضيتها علي أعتاب السلطان ، وأمام كل هذا التزييف يزهد القراء كل هذه الصحف، ويظل القائمون عليها يفتشون عن أشياء أخري يجذبون بها القاريء فيلجأون تارة الي صحافة الرياضة والجنس وتارة أخري الي صحافة العلمانية والإسلام ، ويتركون الحكومة تمزق وتبيع في كعكة الوطن. مجندون ورئيس ويسرد كمال الدين في هذا الفصل تاريخ طويل من الفساد المالي والسياسي والمهني في المؤسسات الصحفية القومية والذي صنعه مجموعة من ...... حراسة النظام وأولهم " إبراهيم نافع" الذي أطلق رصاصة الصوت والصمت علي الشعب المصري من خلال هيمنة الأهرام علي عقول الشعب وتضليله والمساهمة في إفساد الحياة السياسية ، والآن يعيش إبراهيم نافع اما في قصره أو في باريس للاستجمام أو للعلاج وإجراء الفحوصات ومصابو الثورة لا يجدون من يعالجهم. أما عبدالله كمال فقد تفنن في تحويل جريدة روزاليوسف صاحبة التاريخ العريق من صحيفة كاشفة للفساد الي بوق لنظام مبارك تسبح بحمده وتهاجم كل من يقترب من ولي العهد ، حيث خاض كمال أشرس المعارك الصحفية ضد كل من اقترب من جمال مبارك ، فهاجم هيكل ووصفه بالبهلوان والألعبان ، وهاجم فهمي هويدي ووصفه بالمهرطق الذي يكتب بلا دليل وتحليلاته السياسية بالتمني. " مجدي الجلاد فساد صحافة أم فساد وطن؟" احتل رئيس تحرير جريدة الوطن " مجدي الجلاد" جزءا كبيرا من الكتاب ، فلم يترك كمال الدين أي فصل من فصول الكتاب دون أن يكتب عن فساد الجلاد أو يلمح له الأمر الذي يجعل القاريء يعتقد بأن الكتاب هو مجرد تصفية حسابات بين " سامي كمال الدين والجلاد" وعبر صفحات الكتاب يبرز كمال الدين موقف الجلاد المعادي للثورة عندما وقف في صالة التحريرفى جريدة المصرى اليوم وقال" من يريد الذهاب الي ميدان التحرير للمشاركة في المظاهرات والثورة لا يقول أنه ينتمي الي جريدة المصري اليوم ومن يفعل ذلك سوف أحوله للتحقيق" والآن أصبح الجلاد ثائرا يتحدث باسم الثورة من خلال سيطرته علي الإعلام المصري. ويذكر كمال الدين أسباب اختيار رجل الأعمال الملياردير " محمد الأمين" الذي اشتري الإعلام المصري بعد الثورة لمجدي الجلاد حتي يدير له مؤسساته الإعلامية ، حيث يقول أن محمد الأمين يعلم أن هناك من الإعلاميين من يغير جلبابه ولا يفرق معه شيء ويعرف أيضا أن الإعلام المزيف يحمي رأس المال المتوحش ، ويدرك جيدا أن الجلاد الذي تنصل من مقالاته " الحياة علي أكتاف جمال مبارك" يستطيع أن يفعل أي شيء في مقابل الحصول علي المال ، وهنا التقي رأس المال مع إعلام مبارك الذي يرتدي ثوب المعارضة. ثم يسرد الكاتب حكايته مع الجلاد منذ أن كان الأخير رئيسا لقسم التحقيقات في مجلة الأهرام العربي التي كان الكاتب محررا بها حتي وصل الي رئاسة تحرير المصري اليوم ثم رئيس تحرير الوطن ومذيعا فى قنوات الأمين ، ومن خلال السرد يبين لنا كمال الدين كيف نجح الجلاد في السيطرة علي الإعلام المصري وتأسيسه لمهنية ولنظام بنفس منطق نظام مبارك ، كل ذلك حققه الجلاد كما ذكر الكاتب عندما تخلي عن ميثاق الشرف الصحفي وباعه علي أبواب السلاطين ، حتي امتلك القصور والفلل والشاليهات والسيارات. وبالمستندات التي ألحقها كمال الدين في نهاية كتابه ، يبرز لنا الصفقات التي تمت بين الجلاد ورجال الأعمال الفاسدين ومنهم " سليمان عامر" كما يذكر الكاتب بعض كتاب المصري اليوم في عهد الجلاد ومدي علاقتهم بالنظام السابق مثل " لميس الحديدي" التي كانت مديرة للحملة الإعلامية لمبارك عام 2005 والتي سرعان ما تنصلت من كل شيء وتتحدث الآن بلسان الثورة ، ومصطفي الفقي الذي كان مساندا لنظام مبارك والذي وقف ضد الثورة وكذلك عبداللطيف المناوي. أسئلة كثيرة وملفات شائكة ، وتهم فساد ألحقها كمال الدين ببعض زملاء مهنته وأغلبهم أحياء يرزقون ، ولذلك طوال قرائتك يظل سؤالك " إذا كان هذا موقفه منهم فما هو موقفهم منه ؟" ولكنك عندما تعود الي أول صفحات الكتاب الصادر عن دار النشر " كيان"، ستجده ضرب بكل شيء عرض الحائط وقال " من يتوكل علي الله فهو حسبه" .