برغم أن حكومة تصريف الأعمال (الجديدة) هى خطوة على الطريق, إلا أنها ليست بالقدر الذى يتناسب مع السياق المتفرد للثورة ولأحداثها. بدءا ذى بدء, نحن لانتوقعها حكومة ثورة, فهى لم تتشكل فى ميدان التحرير, ولم تصاغ فى سياق منظور سياسى تغييرى محدد المعالم. وأيضا لانتوقع أن يأتى تشكيلها تماما من خارج الصندوق التقليدى لمنهجية التفكير. لكننا بالتأكيد نتوقع (ونطلب) من هذه الوزارة, كوزارة تصريف أعمال, أن تكون جسرا مناسبا للإنتقال الى المرحلة القريبة التالية, مرحلة مصر المنطلقة من فكاك التسلط والفساد, الى رحاب المكانة التنموية التى تليق بها (طبقا لعزم الثورة). من هذا المنظور, من المفترض أن يتضمن الحد الأدنى لمهام هذه الوزارة, مهمة تصريف الأعمال فى إطارين متلازمين, وهما التحول الى الديمقراطية والقضاء على الفساد. بالنسبة للتحول الى الديمقراطية, هناك خطوات تتخذ, تتعلق بالدستور والإنتخابات, وجارى التعامل معها والحوار بشأنها من كل من شباب ونشطاء الثورة, والخبراء التكنوقراطيين, والمجلس الأعلى للقوات المسلحة. ولكن, بالنسبة للفساد, فمع أننا نحمد أن ضمت الوزارة الجديدة أسماءا من خارج دوائر التحالف مع الفساد, إلا أن ذلك لايكفى, فالخطوات الجارية فى التعامل مع الفساد ليست أبدا ممنهجة , حيث ماهو إيجابى منها يأتى غالبا فى سياق رد الفعل التلقائى على طلبات الثورة أو على بزوغ حاد لإفتضاحات ما (كما حدث بشأن أمن الدولة وقرارات منع السفر والتقديم للمحاكمة), وليس فى إطار منظومة مختطة لمواجهة الفساد. مانجذب الإنتباه اليه إذن, وبشدة, أن جسر تصريف الأعمال, والذى على الحكومة الجديدة تصميمه وتنفيذه, لا يُتوقع أن ينجح بالحد الأدنى المقبول مالم تُستحدث إدارة منظومية لمقاومة الفساد. وفى نفس الوقت (وهذا تداعى إستراتيجى خطير), إذا لم تنجح مقاومة الفساد فى المرحلة الإنتقالية, فهناك شك فى أن ينجح التحول الديمقراطى ذاته, والذى يمكن حينئذ أن يجرى إجهاضه بواسطة الفساد و الفاسدين. من هنا, تعتبر المواجهة المنظومية للفساد مهمة ثورية رئيسية عاجلة, لابد من الحكومة الحالية أن تتعهد بها, تحت مظلة المجلس الأعلى وبالتنسيق مع قوى الثورة. ذلك حيث لايمكن قبول التلكوء فى التفعيل الأقصى لهذه المهمة الى فترة مابعد حكومة تصريف الأعمال. من هذا المنظور, نشير بإختصار الى ثلاثة أمور حرجة وإستيراتيجية بشأن هذه المهمة الثورية العاجلة (مهمة المواجهة المنظومية للفساد). أولا – لماذا هى مهمة ثورية عاجلة لايمكن التمهل فى إنجازها. السبب فى وجوب السعى العاجل للتنفيذ المنظومى لمواجهة الفساد هو سبب متعدد الجوانب. فى الجانب الأول, نجد أن الفساد (كما هو معروف) هو تماما كالفيروس, شديد العدوى والفتك, وهو أيضا تماما كالسرطان, شرس فى الأنتشاروالقضاء على صاحبه. وبالتالى, فإن التلكؤ فى الإنتباه والمحاصرة لأى قدر من الفساد (مهما بدا حجمه ضئيلا), إنما يعنى المساهمة فى تأهيل هذا الفساد للتكاثر والإنتشار والإستقواء وإكتساب المناعة. وأما الجانب الثانى, فيتمثل فى أن مجابهة الفساد فى بلد قد تشبع بالفساد, تكون أكثر مايمكن من إمكانية وكفاءة إذا ماتلازمت مع وجود سعى شعبى للخلاص من الفساد, وهو الأمر المتوفر فى الواقع الحالى بفعل الثورة. ذلك يعنى أن تأجيل المواجهة المنظومية للفساد الى مابعد حكومة تصريف الأعمال يصبح – من المنظور العلمى – عبثا وتضييعا لفرصة تاريخية, سواء بدون قصد أوبقصد. ثم يأتى الجانب الثالث. إنه يختص بمساهمة “عموم الناس” فى مقاومة الفساد, وكذلك إحساسهم بعائد مساهماتهم على الأوضاع العامة للأعمال والخدمات, وعلى أوضاعهم هم أنفسهم بشكل مباشر. هنا نقولها, أن للناس قدرمن العذر فى إنتفاضاتهم الفئوية المتكررة, حيث هم بحاجة أن يشعروا بأن هناك إرتباط بين الثورة وتداعياتها من جهة, والنظر فى سوء أحوالهم وإحتياجاتهم الخاصة (والتى تدهورت بشدة بسبب الفساد المباركى المزمن) من ناحية أخرى. وعليه, فإن هناك حاجة عاجلة وقصوى الى مواجهة منظومية للفساد. مواجهة تشل الفساد من جهة, وتُشعر عموم الناس بمساهماتهم فيها, وبأنهم أهلها, وذلك بحيث تكون عودتهم لممارسة أعمالهم هى, فى ذات الوقت, جزء لايتجزأ من مقاومتهم للفساد, ومن الثورة. ثانيا – المدخل الى التفعيل الأنسب لهذه المهمة (وزارة لمقاومة الفساد). الإستيعاب المناسب لهذا المدخل (وزارة لمقاومة الفساد), لايتم بعيدا عن إستيعاب لأمر آخر, وهو أنه بينما معظم مهام حكومة تصريف الأعمال تتطلب التصريف الكفء للأعمال, بحكمة التحسب لضرورات طبيعة المرحلة, باعتبارها إنتقالية, وبالإعتبار لمتطلبات الثورة, فإن مواجهة الفساد بالذات (كإحدى مهام هذه الحكومة) هى التى تتطلب المقاربة الثورية (الممنهجة المباشرة), وبشكل واضح, لايحتمل الإنتظار. من هنا, هناك حاجة ماسة الى بناء كيان تنسيقى قومى, يختص بمجابهة الفساد, الذى قد تفشى فى الدولة, وبمنع أية حركيات يمكن أن يكون من شأنها توليد فساد جديد. هذا الكيان من المفضل أن يكون “وزارة” مؤقته. ذلك بمعنى أن هذه الوزارة, بعد إتمام أداءها لمهامها, تتحول الى جهاز قومى يختص بإستمرارية مقاومة ومنع الفساد (على غرار الوضع فى سنغافورة مثلا). على أن يكون هذا الجهاز مسؤلا عن مجابهة الفساد فى الحكومة والقطاعين العام والخاص. وأن يُحاسَب عن أداءه أمام المجلس النيابى الجديد المنتخب. هناك إذن حاجة بحكومة تصريف الأعمال, فى المرحلة الإنتقالية, الى إنشاء وزارة جديدة, من نوع جديد. وزارة تختص بتنسيق مجابهة الفساد, وبإتمام هذه المجابهة, وبالتأسيس للأدوات التى يكون من شأنها عدم السماح بظهور الفساد مرة أخرى فى المستقبل. إنها حاجة تختص بأوضاع مصر, وبخصوصيات ثورتها. ثالثا – كيفية التفعيل الأمثل لمهمة المقاومة المنظومية للفساد. التفعيل الأمثل للمقاومة المنظومية للفساد, عن طريق الوزارة المؤقته, يكون من خلال المجابهة والتنيسق على ثلاث مستويات. المستوى الأول هو مستوى إستراتيجى ويختص بالدولة ككل. والمستوى الثانى هو مستوى وظائفى Functional , ويتعلق بالمتطلبات والمسارات على مستوى المجالات والقطاعات. وأما المستوى الثالث فهو المستوى التشغيلى اليومى داخل وحدات العمل. الهدف الرئيس على المستويات الثلاث هو إقتلاع الفساد ومنع إعادة توليده. و من حيث التطبيق, لكل مستوى أهدافه الجزئية الخاصة به (والتى تكون أيضا إمتدادا وتعضيدا للأهداف الجزئية فى المستويين الآخرين ). وإذا كان ليس من المناسب هنا التطرق الى التفاصيل, بخصوص الأهداف الجزئية والحركيات المنظومية التى يكون من شأنها إقتلاع الفساد ووأده, فإنه يمكن الإشارة (فى عجالة سريعه وكمثال) الى شريحة واحدة فقط من أنواع الفساد, والتى توجد بقوة على المستويات الثلاث المقترحة أعلاه, ولها شأنها فى تعطيل الحاضر والمستقبل للوطن والمواطنين. إنها شريحة مايمكن أن يطلق عليه “الفساد الطليق”, والذى يوجد على كافة المستويات, وفى كافة قطاعات الدولة. إنه ذلك الفساد الذى لم يكتشف (و/أو لم يجرى تحجيمه) بعد. هذا الفساد الطليق يكون بمثابة حماية وقوة دفع لكافة أشكال الفساد (السياسى والإدارى والمالى), فى كافة مستويات المجابهة. وهكذا, مقاومة (وإقتلاع) الفساد فى إوضاع وظروف مصر تحتاج الى كيان تنسيقى وطنى متخصص, ولايمكن إنجازها بالكفاءة المناسبة, من خلال مجرد الإعتماد على السلطات والأجهزة الرقابية القائمة. إنها تحتاج الى تناول كلى وتفصيلى فى آن واحد. هذا الأمر يمثل حاجة أساسية لنجاح الثورة. بمثله تمكنت كيانات مثل سنغافورة والسويد من الصعود الى مصاف الدول المتقدمة جدا, عالية الشفافية. وأما بدونه, فستعود الأوضاع المصرية بسرعة الى أسوأ مما كانت عليه من تحالفات إفسادية سيئة. ذلك حيث ينبغى أن لا ننسى أن الفساد برائحة وديناميكياته قد ملأ البلاد عقودا, وأنه لايمكن التخلص منه من خلال مجرد الإعتماد على الأدوات التقليدية القائمة والتى كانت هى نفسها المنوط اليها مجابهته قبل الثورة. بإختصار, لن تنجح أهداف الثورة, طالما خرجت الأدوات والقيادات الخاصة بمقاومة الفساد من نفس عباءة أدوات وقيادات ماقبل ثورة مصر 25 يناير.