قسم الحكماء وعلماء الأخلاق قوى النفس الإنسانية إلى القوى المدركة والقوى المحركة واعتبروا أن الإنسان الكامل ينبغى أن تقوى لديه القوة الناطقة " العاقلة " على صعيدين : الأول:القوة العاقلة المدركة وهى العارفة بحقائق الأشياء بعد تجريدها.. وتلك هى التى تحصل للإنسان بالتفكر وإعمال العقل وتلقى المعارف الفلسفية النظرية الثانى: القوى العاقلة المحركة والمهيمنة على باقى القوى الشهوانية والغضبية .. وتلك التى تحصل لدى الإنسان بمقاومتة قواه الشهوية والغضبية ومحاولة السيطرة عليهما وكبح جماحهما بمعونة قوى العقل العملى وعلى هذا فمجاهدة الإنسان لتطرف شهواته وتمادى نزواته هو أمر مطلوب منه حتى يكتمل بناؤه العقلى وذلك بتغليب قواه العاقلة على باقى القوى النفسية الأخرى وإعمال حاكمية العقل داخل منظومة الإنسان والغرض الأساسي من ضرورة الجهاد العملى هو الآتى أولا: إقامة العدل داخل منظومة الإنسان لأن من الظلم أن يتميز الإنسان عن باقى الحيونات بفضيلة القوى العاقلة .. ثم يعطلها ويغلب عليها باقى القوى الأخرى التى يشترك فيها مع الحيوان ، فيضيع ذلك الإنسان مزيته ويقتل بيديه إنسانيته وتساميه ، فيصير ظالما لنفسه ، يقول تعالى "هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون" (النحل /33) ويقول القرآن على لسان بلقيس "قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين" (النمل /44) ، وقبل ذلك فمن الظلم أن يمتلك الإنسان قدرة عقلية مدركة لعلة الوجود تدفعه دفعا نحو التوحيد ثم يشرك بخالقه ! "وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم" (لقمان /13) ثانيا: الوصول للسعادة والكمال .. فعدالة الإنسان مع قواه النفسية التى تفضي فى النهاية إلى نهضته الداخلية لتكملة نواقص عقله النظرى تجعل الإنسان يشعر بتفاضله وتمايزه فينهل من لذة المعرفة لأصل وجوده وعلة بقائه وبما هو منوط به أداؤه ، كما أن تسليط عقله العملى المحرك على باقى القوى الحيوانية داخله وهو المعروف "بجهاد النفس" يعتبر المدخل الأول نحو تطهير ذاته وإزالة الغبار وتذويب الموانع الحائلة دون تلقى قلبه أمواج الفيوضات الربانية والتى من المحال أن تطرق باب قلوب العبيد الموصدة بأقفال الانشغال بالدنيا وعبادة ملذاتها والاستسلام لمغرياتها .. لذلك يقول القرآن " أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ" (آل عمران/142) وفى سورة التوبة الآية 20 "الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ " لذلك فجهاد النفس هو أمر فطرى يدركه كل إنسان " طليق " يفوض عقله لتحرير نفسه من ذل الشهوات وعبودية المادة .. ومما يؤكد ذلك أن جميع الشرائع والأديان بل والقوانين " السماوية والأرضية " لاتكاد تخلو من طقوس وشعائر من أجل تطهير النفس الإنسانية وتخليصها من عوالق المادية الملتصقة بها .. والتى إن انساق الإنسان إليها لأصبح كالآلة الصماء أو أصابته البهيمية وقواعد الغابة .. ولأن الإنسان فى رحلة تكامله ووصوله لغايته العليا لتحقيق سعادته القصوى لايميل إلى الحياة المنفردة والعزوف عن اجتماعه وبنى جنسه ، انطلاقا مما قاله أرسطو بأنه "حيوان اجتماعى" فإن الإنسان بذلك لايمكن أن يتكامل وحده خصوصا على صعيد معاملته لبنى جنسه ، فهو يمارس حقا تطهير سريرته بالتعامل الإنسانى والأخلاقى عبر إرساء أسس الرحمة والصفح والعدالة مع الآخرين .. لذلك كان أيضا لزاما عليه تقويم الآخر وتحذيره وتقديم أنفس النصائح لأخيه الإنسان من أجل أن يتكامل الجميع فتتحقق العدالة المجتمعية بالخارج مثلما يسعى كل إنسان فى أن يحققها بداخله كما ذكرنا سابقا، وبذلك يصير أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر أمر حتمى يقوم به ليس فقط من أجل وضع بذور المجتمع الفاضل والعادل، بل أيضا لأن فى ذلك الفعل سعادته وتكامله الشخصيين الذين لن يصلا للتمام إلا عبر علاقات التواصل والود المتبادل بين بنى الإنسان والتى لابد لها من التواصي وتبادل الكمالات الأخلاقية والنفسانية .. وعلى هذا فلا تستغرب أن القوى النفسانية المتواجدة بمنظومة الإنسان الداخلية هى نفسها المعبر عنها ب "قوى المجتمع" التى عبرعنها أفلاطون ومن قبله سقراط قديما، عندما اعتبروا الإنسان يمثل مجتمعا مصغرا حيث تماثل العدالة الروحية للإنسان العدالة السياسية والاجتماعية فيالدولة، بينما علي النقيض: تماثل حالة طغيان الشهوة علي روح ونفس الإنسان حالة تسلطإرادة الدهماء علي الدولة، فالشهوة الإنسانية عند سقراط يماثلها "رغبات" الشعببالنسبة للنظم السياسية، التي يجب أن يسيطر عليها الحكماء ونخبة العلماء الذينيدركون بعلمهم وحكمتهم "المصلحة العامة" كما يدرك العقل بمنطقه السليم"مصلحة الروح" و"الجسد".وللحديث بقية