"المُعرِض عن متاع الدنيا وطيّباتها يُخصُّ باسم الزاهد؛ وأمّا المواظب على فعل العبادات من القيام والصيام ونحوها فيُخصُّ باسم العابد؛ والمتصرّف بفكره إلى قدس الجبروت مستديمًا لشروق نور الحقّ في سرّه يُخَصُّ باسم العارف، وقد يتركّب بعض هذه مع بعض" بتلك المعاني التي ذكرها ابن سينا نجد أن معرفة الله عنده تعتمد على شمولية المنهج المعرفي وتكامله دون النظر للإنسان من زاوية واحدة فقط مثلما فعل بعض الفلاسفة القدامى أو المتصوفة، فالعرفان لديه له شقان لايستغنى أحدهما عن الآخر، الشق الأول وهو الجانب النظرى المتمثل فى تحصيل المعرفة بالبرهان المفضى لإدراك اليقين المطابق للواقع والذى يتمثل فى الوصول للعلة التامة والمبدأ الأول للموجودات "واجب الوجود" بذلك يصل الحكيم والفيلسوف- نظريا - للتوحيد الخالص لله عز وجل وتنزيهه عن الشئونات الموجبة للكمال الإنسانى المتعلق بالمادة، كالحركة والسكون والتى هى فى ذاتها علة للزمان والمكان، وتلك المعرفة الذهنية هى ما عبر عنه ابن سينا بقوله " المتصرف بفكره إلى قدس الجبروت ".. ولكن كما يقول أفلاطون "لا يستطيع العقل وحده التحكم فى الفعل البشرى، فقد نعرف ما يجب عمله ومع ذلك لا أسلكه " فما قيمة معرفة الله إذن دون أن يكتسب المريد الهمة والقوة اللازمة المعينة له على أداء التكاليف الشرعية والمجاهدات النفسانية لكى يصل المبتغى إلى خالقه ويسلك درب المحبة وصولا للمعشوق الحقيقى جل علاه؟. هنا يأتى دور الشق الثانى من العرفان وهو المتعلق بالعقل العملى المختص بتحصيل الرياضات الروحية وسيطرة القوة الناطقة المحركة على باقى قوى النفس للوصول إلى الكمالات الروحية المسببة للسعادة والتى بدورها لاتقل أهمية عن الجزء النظرى .. فالإنسان الفاضل برأى الفلاسفة هو ما يصل إلى تمام العقل والحكمة سواء نظريا أو عمليا وسلوكيا وهو مصدق لما جاء فى القرآن الكريم ( ومن يؤتى الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا ) والفيلسوف الكامل كما يقول الفارابي (هو أن تحصل له العلوم النظرية، وتكون له قوة على استعمالها ) هذه القوة التى أساسها الحب والإيمان للإله الواحد أصل كل الكمالات وواهبها سبحانه وتعالى والتى يدركها العارفون الحقيقيون، فبها تصير القوة ملكة يسيطرون من خلالها على قواهم الحيوانية ويتخلون عن العلائق المادية الدنيوية، وقد وصف ابن سينا حالهم قائلا ( والعارفون المتنزهون إذا وضع عنهم درن مقارنة البدن، وانفكوا عن الشواغل خلصوا إلى عالم القدس والسعادة وانتعشوا بالكمال الأعلى وحصلت لهم اللذة العليا، وقد عرفتها ! ) والباحث المدقق فى كتاب ابن سينا " الإشارات والتنبيهات " يجد أنه أفرد مبحثا كاملا يتحدث فيه عن مقامات الإشراق والوصول إلى التصفية الروحية، وأسماه ( مقامات العارفين ) ذلك الباب الذى وصفه الفخر الرازى بأنه (أجلّ ما في هذا الكتاب، فإنه رتب فيه علوم الصوفية ترتيبًا ما سبقه إليه من قبله ولا لحقه من بعده !). إن ابن سينا ظلم من المتصوفين، لا لشيء إلا لأنه اهتم أولا بتحصيل اليقين النظرى بالبرهان العقلى والفلسفى قبل أن يسطر صفحة التخلى والعشق الإلهى العملى، متسائلا فى عمق ومنطقية: كيف أعشقه مالم أدركه بعد؟ وأنى لى من محبة من لم أتوصل إليه نظريا؟ هل أحب من لم أعرفه وأستطلع وجوده فيدلنى الحب على معرفته أم أجتهد بعقلى لإدراكه واستبيان أزليته وعظمته أولا فيدلنى الحب على التقرب منه ونيل سعادتى بمعرفته والشوق إليه ومن ثم الفناء فيه ثانيا ؟ نعم يعد ابن سينا عارفا بالله، وكيف لا وهو القائل: " فكل حجة كنت أنظر فيها أثبت مقدمات قياسية وأرتبها فى تلك الظهور ثم نظرت فيما عساها تنتج وراعيت شروط مقدماته، حتى تحقق لى حقيقة الحق فى تلك المسألة ، وكلما كنت أتحير فى مسألة ولم أكن أظفر بالحد الأوسط فى قياس ترددت إلى الجامع، وصليت وابتهلت إلى مبدع الكل، حتى فتح لى المنغلق وتيسر المتعسر".