فى هذا الوقت الحرج من تاريخ الأمة،الذى يختلط فيه الحق بالباطل حتى لم يعد المرء يستطع التفرقة بين العالم والجاهل ومع انتشار دعاوى الباطل بين الإلحاد والسفسطة حتى ليكاد الحق يكون فى أقصى محنته، بين من يدعون الانتماء إليه واحتكار التحدث باسمه وبين غياب صوت العقل والمنطق من المنتمين له حقا وصدقا. تطل علينا ذكرى مولد أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا الملقب بال"شيخ الرئيس"، الفيلسوف والطبيب والعالم لتذكرنا بما نفتقده تلك الأيام من حكماء وأصحاب رأى ينيرون طريق الحق ويقيمون الحجة على الباطل ليهدى الله بهم الأمة وترتفع بهم الهمم. المدهش والمثير للقارئ فى سيرة هذا الفيلسوف العظيم ليس فقط مدى ما وصل إليه فى كل مجال اقتحمه، حتى أنه كان أفضل أطباء عصره فقال السير وليام أوسلر عن كتابه (القانون) فى علم الطب: "إنه كان القرآن الكريم الطبي لأطول فترة من الزمن" وهو الكتاب الذى قد كتبه ابن سينا بعد أن درس الطب ومارسه تأدبا وبالمجان وهو يبلغ من العمر ستة عشر عاما، كما أنه كان أول من وصف مرض حصى المثانة السريرية وصفا قال عنه الدكتور خير الله فى كتابه الطب العربى فيما بعد: " ويصعب علينا في هذا العصر أن نضيف شيئا جديدا، إلي وصف ابن سينا لأعراض حصى المثانة السريرية"، الا أن النقطة الفارقة فى تاريخه الطبى كانت حين قام بعلاج الأمير نوح بن منصور وهو فى عامه السابع عشر من عمره بعد أن فشل فى ذلك كل أطباء عصره، لينال شهرة فائقة ساعدته على أن تصل يداه إلى المراجع النادرة فى علم الطب لينهل منها ويستزد فى علمه حتى بلغ عامه العشرون ليتجه للتأليف والكتابة فى كل من الفلسفة والطب. إلا أن نجاحه فى علم الطب، لم يمنعه من أن يبرع فى غير ذلك من المجالات سواءً كانت الرياضة أو العلوم الطبيعية والموسيقى أو حتى السياسة إلا أن نجاحه كان قد فاق كل نجاح فى كل من علم الفلسفة والمنطق، فقد اتبع ابن سينا مدرسة الفلسفة المشائية التى نشأت فى اليونان على يد أرسطو (المعلم الأول) بعد أن تتلمذ على يد الفيلسوف "أبو عبد الله النائلى"، حتى فاق أستاذه وأبهره بإجابته على الأسئلة المنطقية، بما قد لا يخطر حتى ببال أستاذه أحيانا ليبدأ ابن رشد رحلته الجديدة فى إثراء العلوم العقلية بما قدمه من تصورات فى قضايا قدم العالم والنفس وما غيرها من إجابات شافية لأسئلة لطالما شغلت عقل الإنسان عن وجوده. وفى يونيو 1037 م توفى "الشيخ الرئيس" وهو فى الثامنة والخمسين من عمره، بعد أن قدم مثالا حيا لما ينبغى أن يكون عليه العالم والمتجرد الباحث عن الحقيقة، لينطلق بعقله فى كلٍ من العلوم التجريبية والعقلية إلي آفاق لم يسبقه أحد إليها وليستمر العالم يستقى من علومه حتى اليوم، حتى أن كتبه قد ترجمت إلى معظم لغات العالم لتكون أساسا للتعليم فى جميع أنحاء العالم، إلا فى أمتنا العربية التى تعانى من تجاهل لرموز حضارتها العريقة لتظل تتسربل فى سنوات الضعف والهوان، فى حلقات الذل التى لن تنكسر حتى تستقى من تجارب الشيخ الرئيس وغيره من أصحاب العقول أسباب النهوض، شرط أن تملك الاستعداد أو كما قال جرى الكلام على لسان الشيخ الرئيس: "المستعد للشيء تكفيه أضعف أسبابه". Comment *