ربما تتعدد وتتشعب أسباب الاتفاق أو الاختلاف على عدم جدوى شغل البال ببورصة نتائج الاستفتاء على دستور مصر الإخواني الذي تم تمريره في ظرف سياسي مريب، ففي مشروعه الانقسامي من العورات والعيوب ما كان كفيلاً بتحويل جسد قارئه إلى بيئة حيوية لكافة العلل المستعصية وحتى النادرة، لن نسهب مثلاً ومن حيث المبدأ في حديث مكرر حول عدم التوافق الوطني على شخوص واضعيه، أو اقصاء جمعيته التأسيسية أحادية اللون السياسي للكفاءات التي تزخر بها مصر في مقابل أغلبية تنتمي للتيار الديني محدودة المعرفة والتجربة والكفاءة، أوبعض مواده المثيرة للجدل المكرسة للطوأفة والمؤسسة لدولة تخاصم تاريخ مصر وشخصيتها المتفردة، وصولاً إلى التصويت عليه حتى ساعات متأخرة من الصباح، وقد يكفي هنا استعارة وصف البعض لتلك الوثيقة ب(دستور الفجر) ليس فقط في إشارة الى السياق الزمني الذي تم تمرير مسودته فيه بل وأيضاً سياقه المبهم ووضعه الغامض وظروف نشأته الدموية. لكن وللحق، فإن بعض تفاعلات اليومين الماضيين في القاهرة، فرضت واقعا موازياً بدا في ظاهره منفصلاً عن جدل تمرير الدستور، لكن في الجوهر عبر عن حقائق كاشفة تعلو فوق مستوى الدساتير بشقاقاتها وتحالفاتها أو طموحات واضعيها واحباطات مبعديها، فيما يمكن إدراجه في خانة الخطوط الحمراء والتابوهات فوق الدستورية غير قابلة النقاش والجدل، بحكم احتكاكها المباشر بوجود الدولة وعلاقات العروش بالجيوش فيها، خاصة إذا كان هذا الوضع في دولة شرق أوسطية تحظى فيها المؤسسة العسكرية بوضع تاريخي وواقعي متمايز، أضيف اليه متغير هام وهو دخول الجماعات الدينية كلاعب أساسي في معادلة العروش والجيوش، بما يعيد التذكير مرة أخرى ب(النموذج الباكستاني)، ويمكن أن نلخص تلك المستجدات فيما يلي: الأول: الرسالة الأسبوعية للمرشد العام لجماعة الاخوان المسلمين محمد بديع والتي حملت عبارة غامضة وحمالة لعدة أوجه، تحدث في نصها بالقول "رسول الله (ص) في وصيته الغالية يصف أهل مصر بأنهم خير أجناد الأرض، أي أنهم جنود طيِّعون يحتاجون إلى قيادة، ولما كانت هناك قيادات فاسدة تبعها هؤلاء الجنود فيحتاج إلى قيادة رشيدة مع توعية الجنود....". وقد اعتبرت المؤسسة العسكرية هذا الكلام موجه لها ولذلك خرجت قذائف الغضب من داخل هذه المؤسسة على لسان مصدر عسكري بإشارات إلى تذمر وغضب من جانب ضباط الجيش وقياداته. بل ووجه المصدر رسالة واضحة بأن المؤسسة العسكرية لن تقبل بأي تدخل في شؤونها من أناس ليس لهم أية صفة في الدولة للحديث عن تلك المؤسسة العريقة، وستقف بكل حسم لمن يلقي الاتهامات الباطلة على قياداتها السابقين أو الحاليين حسب تعبير المصدر. أما الموقف الثاني: فقد استبق إعلان النتيجة الرسمية للاستفتاء على الدستور، بالقرار المفاجئ للفريق أول عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع المصري والذي يحمل صيغة سيادية تقضي بحظر تملك أو حق إنتفاع أو إيجار بالمناطق الإستراتيجية ذات الأهمية العسكرية، والمناطق المتاخمة للحدود الشرقية لمصر 5 كيلومتر غرباً. ونص القرار أيضا أنه يسمح للأشخاص الطبيعيين حاملى الجنسية المصرية دون غيرها من أى جنسيات أخرى، ومن أبوين مصريين، وللأشخاص الإعتبارية المصرية المملوك رأس مالها بالكامل لمصريين حاملى الجنسية المصرية وحدها التملك في منطقة شبه جزيرة سيناء. وضرورة الحصول على موافقة وزارتي الدفاع والداخلية وجهاز المخابرات العامة، قبل تقرير حق إنتفاع أو تملك لمنشات مبنية فقط دون الأرض المقامة عليها. والحق أن في وضع هذين الموقفين في سياق ما تشهده مصر نتيجة للأوضاع المرتبكة والملتبسة يضع العديد من الإشارات الدالة التي تستحق مساحات زمنية ممتدة للتوقف وللتأمل: الأول: في موقف "رسالة المرشد"، غاب الرئيس الإخواني محمد مرسي رغم أنه قائد أعلى للقوات المسلحة يملك الحل والعقد في هكذا سوء تفاهم، وهو أمر أدركته المؤسسة العسكرية جيداً وجنبته حرجه، في ضوء ما هو مفهوم من تنازع الولاءات الذي يحكم مرسي بين الجماعة بتركيبها وأجندتها الضيقة من ناحية، وبين الدولة بمؤسساتها ومسؤولياتها المعقدة، ففضلت أن تكون مواجهتها مباشرة مع الجماعة. الثاني: أن المؤسسة العسكرية لم تمهل رسالة مرشد الاخوان الغامضة حمالة الأوجه وقتاً للتفاعل والرد والقيل والقال، وتلقفتها باعتبارها مناورة أو جساً للنبض وردتها الى حجر أصحابها بحسم وسرعة، بل واستخدمت في رسالتها عبارات عميقة الدلالة مثل التذمر والغضب، وهي ألفاظ خطيرة في العرف العسكري تدنو من مؤشرات الانقلاب اذا لم يتفهمها متلقيها ويحسب حسابها جيدا. الثالث: أن حديث العسكر عن عدم قبولهم تدخل أناس ليس لهم أية صفة في الدولة في شؤونهم هو حديث موجه الى مرشد الإخوان مباشرة، يحمل إلى جانب نبرة التحذير والوعيد والردع الواضحة، إسقاطاً على غياب الشرعية عن الجماعة ومرشدها، وغياب وضعها في دولاب الدولة الشرعي حتى لو دخل أحد أبنائها القصر الجمهوري رئيساً منتخباً، ومن ثم كان الرد تقييماً فورياً للمواقف وتحجيماً لشخوصها في دولة تم العبث بمعظم مؤسساتها، ولم يبق فيها على تماسكه إلا الجيش. الرابع: أن حديث العسكر أيضاً عن عدم قبول تدخل المرشد وجماعته، يؤشر ليس فقط لموقف عارض نجم عن قصد استوجب الزجر أو التباس اقتضى الاعتذار، وإنما ربما كان فرصة لقطع الطريق أمام أي تفكير مستقبلي في التدخل بقمة هرم المؤسسة العسكرية سلباً أو إيجاباً مثلما حدث مع مؤسسات أخرى كالقضاء والمحكمة الدستورية، والمقصود هنا بالطبع هو ما يوصف ب(مخطط أخونة الدولة). الخامس: أن صدور قرار من وزير الدفاع المصري السيسي بحظر تملك الأراضي على غير المصريين في سيناء، بل واشتراطه موافقة وزارتي الدفاع والداخلية وجهاز المخابرات العامة، وبغض النظر عن أي تفسيرات أخرى، يعد خطوة استباقية فوق دستورية قطعت الطريق على الدستور الإخواني قبل إقراره بما يجيزه في أحد مواده التصرف في أملاك الدولة أو منح امتياز باستغلالها بناء على قانون، وذلك في ضوء ما يتردد عن نوايا استثمار واسع في سيناء قد يؤدي لوقوعها في يد جهات عربية مشكوك في نواياها، مما يضئ المصابيح الحمراء حيال منظومة الأمن القومي المصري في تلك البقعة بالغة الحساسية هناك. السادس: أن منع التملك بجانب الحدود الشرقية المتاخمة لقطاع غزة والكيان الصهيوني جسد المخاوف الحقيقية من جانب العسكر حيال ما يتردد عن حملة تهجير واسعة للفلسطينيين من غزة الى سيناء ومحاولات لخلق مشكلة لاجئين جديدة، والتي ليست ببعيدة عن أحلام صهيونية قديمة بتصفية القضية الفلسطينية عبر تصديرها الى سيناء، وهي مسألة لا أظن أنها غابت عن حسابات المؤسسة العسكرية، باعتبارها أحد خطوطها الحمراء منذ عصر مبارك. السابع: أن القرارات المتعلقة بسيناء والتي لا تبدو نظرياً من اختصاصات المؤسسة العسكرية لم تلق رد فعل واضح من قبل مؤسسة الرئاسة، وهي مسألة تبدو في غاية الحرج والحساسية، خاصة أن قبول الرئاسة والحماس لها قد يضعها في وضع أضعف ولن يلقى قبول رضا الأنصار والحلفاء، كما أن رفضها يرسخ الصورة الذهنية أو الاشاعات أو سمها كما تشاء بأن هناك شيئاً ما يدبر بليل لسيناء. في الوقت نفسه فإن التفسير الرسمي من قبل العسكر بأن هذا القرار هو تفصيل لقرار سابق صدر عن مجلس الوزراء المصري لا يعفي الأمر من مخاوف تدحض دستورية هذا القانون في ضوء الدستور الجديد. الثامن: أن جماع الموقفين (رد فعل الجيش على رسالة المرشد أو قرارات السيسي بشأن أراضي سيناء) هو ترجمة واقعية عن محك دائم في الشرق الأوسط وليس مصر فحسب، يضع المؤسسة العسكرية على مفترق الطرق بين الديمقراطية بضروراتها الحاكمة الملزمة والأمن القومي بمقتضياته الثابتة وغير القابلة للنقاش، وفي غالب الأحوال ترجح كفة الثانية على الأولى دون أدنى تردد، وتحسمها في غالب الأوقات الجيوش وليس العروش. التاسع: لا مجال للحديث في هذه التجاذبات المكتومة عن علاقات الطرفين بالولايات المتحدةالأمريكية، فريثما كان أحد الطرفين أو كليهما ضامنا للمصالح الأمريكية وحافظا لها، فإن واشنطن تلتزم الحياد، وتضع التجاذبات في سياق الطبيعي ضمن لعبة التوازنات بين رعاياها، أما في اللحظات الفارقة تبقى المؤسسة العسكرية مناط الحديث وأساس التفاهمات. Comment *