قضى ديكتاتور شيلي السابق، أوغستو رامون بينوشيه، الذى تحل ذكراه فى ديسمبر الجاري، أكثر من عشر سنوات في نهايات عمره المديد، ملاحقاً من قبل منظمات حقوقية دولية ومحلية، بتهم تتعلق بالفساد وانتهاك حقوق الإنسان، قبل أن يختطفه الموت، عن عمر يناهز تسعين عاماً، قضى منه نحو ثلاثين عاماً في السلطة، رئيساً للبلاد ثم قائداً للجيش فعضواً في مجلس الشيوخ، متمتعاً بحصانة لم تمكن قوى المعارضة من محاكمته، أو مشاهدته خلف أسوار السجون، ولو ليوم واحد على سبيل التذكار. يحتل الديكتاتور الشيلي الراحل، لقب أسوأ حاكم شهدته أمريكا اللاتينية خلال القرن المنصرم، ولعله يكون الأسوأ في التاريخ الحديث كله، إذ بلغت ممارساته على مدار سنوات حكمه التي تجاوزت 17 عاماً، ما يفوق ديكتاتوريات تشاوسيسكو في رومانيا، وسالازار في البرتغال، وملك ملوك إفريقيا ورئيس الجمهورية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى، العقيد معمر القذافي. استولى بينوشيه على حكم شيلي بعد انقلاب عسكري، نفذه بدعم أمريكي مباشر في سبتمبر من العام 1973، عندما اقتحم القصر الرئاسي وقتل الرئيس الشرعي للبلاد سلفادور الليندي، بعدما رفض الأخير الهرب، وواجه قاتله بما يليق بزعيم شعبي، وقد عبرت عن ذلك المشهد البديع الروائية العالمية ايزابيل الليندي، وهي ابنة شقيق الرئيس الشيلي المغدور، في ثلاثيتها الشهيرة، بيت الأرواح وصور عتيقة وابنة الحظ، عندما كتبت في إحداها عن "الزعيم الذي تزين للموت واستقبله بصدر عار، إلا من الوشاح الرئاسي الذي ميز رؤساء شيلي على مدي قرنين من الزمان". على مدار سنوات حكمه، قضى بينوشيه على كل ما أنجزه سلفه اشتراكي التوجه، ففتح المعتقلات للمعارضين وسحل مناوئيه في الطرقات، وباع أراضي الدولة ومصانعها للأجانب، قبل أن ينتفض الشعب عليه في بداية الثمانينيات، ويرفض الاستفتاء على الدستور الذي صاغه على نحو يمكنه من الحكم مدى الحياة، ما دفعه في النهاية إلى التسليم بمصيره، والاعتراف بالهزيمة في أول انتخابات تعددية تشهدها بلاده في العام 1989، وإن ظل محتفظا بموقعه كقائد للجيش، وعضو في مجلس الشيوخ، وهما المنصبان اللذان منحاه حصانة مطلقة حتى رحيله في العاشر من ديسمبر عام 2006، كانت سبباً في حمايته من المحاكمة على ما اقترفه في حق شعبه وهو كثير، لا تكفي لذكره عشرات الروايات والقصص الملحمية. الذين يعشقون أدب أمريكا اللاتينية، وسحرتهم رائعة ماركيز الشهيرة "خريف البطريرك"، والواقعية السحرية التي تتفجر من "صور" ايزابيل الليندي العتيقة، يمكنهم ببساطة معرفة ما يعنيه القهر، لذا فإنهم ربما يكونون أكثر هلعاً من غيرهم، عندما يتعلق الأمر بمحاولات السلطة، أي سلطة، الانفراد بالحكم أو العبث بالدستور. تخبرنا دروس التاريخ أن البدايات دائماً ما تكون واحدة، وأن الديكتاتوريات لا تأتي من فراغ، لكنها تتسلل دائما إلى كراسي الحكم، مع أول قطرة دم تراق دون حساب، ربما لأن القتل والسجن يصبح بعدها أمراً عادياً، قد لا يجد الديكتاتور مع اعتياده، مجرد وقت لإحصاء عدد الضحايا. لم تنكس شيلي أعلامها عند رحيل بينوشيه، فرقص أحفاد الملايين الذين سلبهم أبسط حقوقهم في حياة حرة وكريمة، في الميادين حتى صباح اليوم التالي، لكن ذلك لم يمنع إعلان قلة من الذين استفادوا من سنوات النهب في عصره، حداداً يليق بالرجل الذي لم يمنحهم حتى عناء حساب زيادة أرصدتهم اليومية في البنوك، على حساب الغالبية العظمى من شعبه.. إنهم أرامل الديكتاتور في كل زمان، وإن اختلفت المسميات والأماكن. Comment *