في الصباح الباكر ليوم السبت 8 سبتمبر 2012 تلقيت على الهاتف المحمول مكالمة من صديق قديم في بيروت . جاء صوته حادا عصبيا وهو يروى لى بدهشة كيف ذهب الفنان التشكيلي الفلسطيني الشاب "محمد الديري" الى مطار بيروت للعودة الى القاهرة في طريقه الى غزة فمنعوه من أن يستقل الطائرة ، طالبين أن يحصل أولا على تأشيرة دخول إلى مصر !. صديقي رجل محل ثقة في أقواله.. مثقف فلسطيني خريج الجامعة الأمريكية في بيروت و يعيش في لبنان منذ عقود . أما الفنان التشكيلي فهو الشاب " محمد الديري " فهو شاب يهوى رسم الوجوه بالفحم والألوان .وذهب الى بيروت لحضور معرض لأعماله. و" الديري " له جدارياته التي تخفف عن أهله في قطاع غزة معاناة العدوان والحصار . ولعل أشهرها جدارية باسم " الأزهر " تجمع وجهي الشهيدين "ياسر عرفات" و"أحمد ياسين" .هذا بكوفيته وذاك بلحيته في رسالة لا تخطؤها العين من أجل الوحدة الوطنية الفلسطينية . ولقد إختار ان يرسم جداريته على سور فرع جامعة الأزهر في غزة فاشتهرت باسمها " جدارية الأزهر ". وبصرف النظر عن الصديق والفنان فإن منع فلسطيني من أهل غزة من العودة الى القطاع عبر البوابة الوحيدة المتاحة أمر غير مفهوم أو مقبول . خصوصا أن غزة بلا مطارات أو موانئ تسمح . ولأن قدر رفح ومصر أنهما المنفذ الوحيد لخروج ودخول نحو مليوني إنسان و شقيق عربي .. هم سكان قطاع غزة المحاصرون منذ وصول حركة " حماس " الى السلطة عام 2007. بالطبع ليس ذنب المحاصرين أن "حماس" تحكم في القطاع . بل ليس بالأصل ذنب "حماس" أن تحكم بعد إنتخابات نزيهة . كما ليس ذنب مليوني انسان فلسطيني أن يدفعوا ثمن فعلة بضعة إرهابيين يعدون على اصابع اليد الواحدة أو اليدين الاثنين في سيناء يوم 5 أغسطس الماضي . حتى ولو كان من بين هؤلاء الإرهابيين عدد من الفلسطينيين . وهو ما لم يثبت على أية حال بعد . وليس انسانيا أو سياسيا أو وطنيا أو عقلانيا بأي حال أن يتحول مليوني فلسطيني الى رهائن لكل حادث طارئ لامسئولية لهم عنه . رهائن لسياسات أمنية مصرية غير رشيدة ولا فعالة . بل هي أقرب لممارسات عقاب جماعي ضد أبرياء بهدف التغطية على فشل القيادات الأمنية في تعقب الإرهابيين أنفسهم ومنع العمليات الإرهابية ذاتها . لقد كان مفهوما أن يشارك نظام "مبارك" في حصار قطاع غزة قبل ثورة 25 يناير 2011 ، لتبعيته لواشنطن وتل أبيب ولعقليته الأمنية ضيقة الأفق. لكن من غير المفهوم أن تستمر الجريمة ذاتها بعد الثورة . بل وفي ظل رئيس مدني منتخب ، وجاء من صفوف جماعة " الإخوان " التي تعتبر حركة " حماس " أنها الفرع الفلسطيني لها.وأخشى أن أجدني مدفوعا لتصديق ما انتهى اليه محدثي من بيروت في هذا الصباح بأن أهل غزة يدفعون ثمن متطلبات غير معلنة لقرض صندوق النقد الدولي إلى الرئيس مرسى وحكومته . كان مؤلما بالنسبة لي أن يجرى إغلاق معبر رفح أمام حركة أشقائنا الفلسطينيين بعد العملية الإرهابية في سيناء . ومازال مؤلما وغير مبرر فتح المعبر " بالقطارة " ثلاثة أيام في الأسبوع . لأن معنى ذلك أن شيئا لم يتغير في القاهرة . لكنني كنت سعيدا عندما صدرت تصريحات من حكومة " مرسى " تفيد بأن المعبر يجب التوقف عن إغلاقه .ولأنه شيء مختلف تماما عن أنفاق التهريب تحت الأرض . ومع المكالمة الصباحية من بيروت بشأن الفنان الشاب " محمد الديري " الذي لا يملك إلا ريشته وألوانه تجددت مخاوفي من أولئك الذين يقولون ما لا يفعلون . خصوصا وأنني وجدتني عاجزا عن فعل شيء ذا بال للفنان الممنوع من العودة الى بلده، بما في ذلك نشر ما أكتب بهذا الشأن في "الأهرام" الجريدة التي أعمل بها . ولأنني أيضا بعدما كنت متفائلا بما قاله مجلس الشورى عن تغيير أسلوب اختيار قيادات الصحف القومية تيقنت بعد المنع من النشر مجددا في ظل هذه القيادات التي جاءت حتما على خلاف المعلن من معايير ولجان أن أسوأ شيء أن تقول ما لا تفعل . ولأن الشيء بالشيء يذكر فإن رئيس تحرير الأهرام الجديد ليس مجرد شخص وصف ثوار التحرير يوما ما بالشواذ جنسيا واتهمهم بالعمالة للأجانب .بل هو أيضا قام بزيارة القدسالمحتلة و الخليل المحتلة عام 1996 مخالفا معايير مجلس الشورى لاختيار قيادات الصحف القومية بشأن حظر التطبيع. و لأن السلطات الإسرائيلية هي التي سمحت له بالدخول الى فلسطينالمحتلة ، فإنني أخشى أن يحسده الفنان "محمد الديري " وهو عالق الآن في بيروت إذا قرأ هذا المقال على شبكة " الإنترنت " . Comment *