لعله من الأصوب عندما نتحدث عن ارتقاء المسيحية إلى مرتبة الدين الرسمي للدولة الرومانية أن نقول إن ما حدث هو فقط تمكين للتيار المسيحي الذي نجح في أن يفرض نفسه على التيارات المسيحية المنافسة الأخرى، ومن ثم يكون علينا إذا تحرينا الدقة القول بإن هذا التيار من بين كل تيارات ومذاهب المسيحية هو الذي استطاع الارتقاء إلى مرتبة الدين الرسمي للدولة الرومانية. لهذا فقط أصبح لدينا اليوم عدة مراكز للديانة المسيحية، بينهم اختلافات جذرية كثيرة واختلافات هامشية أكثر، من بين الاختلافات الجذرية الأكثر حدة: الاختلاف حول طبيعة المسيح نفسه. ينطبق ذلك أيضا على قصص صعود وارتقاء الإسلام في عدة دول في العصر الحديث، كالسعودية وباكستان والسودان وأفغانستان وإيران، والتي تدعي كل منها أنها دولة إسلامية. صحيح أن هناك تشابهات كثيرة بين هذه الدول أولها أنها جميعها دول "دينية" بالمعنى الصحيح للكلمة، وثانيها أنها دول "متخلفة" في مجالات التنمية البشرية والتحديث والمساهمة في الحضارة البشرية، وثالثها أنها تقول إن ما تطبقه هو "الإسلام" بألف ولام التعريف، أي الإسلام كما أنزله الله وكما يحب لنا أن نطبقه، أي أنها تدعي معرفتها بالإرادة الإلهية وتعمل على تنفيذها. ورابعها أن التقاليد لها سلطة فيها أكبر من الدين الذي تدعي أن الله اختارها لحراسته (للفكرة الأخيرة مقال آخر). الأصوب عند الحديث عن هذه الدول إذن القول إن تيارا إسلاميا ما (أو مذهبا أو مدرسة فقهية ما) تمكّن من فرض نفسه على السلطة الحاكمة في هذه الدول (أو توافق معها سياسيا) لتتبناه ولتجعل من نفسها حارسة عليه. ولنبدأ بإيران. انتشر المذهب الشيعي في المنطقة المسماة بفارس، في البداية كانت المذاهب الشيعية (بداية من الزيدية للإمامية للإثنى عشرية..) على تعددها تتجاور، ولكن مع مرور الزمن ولأسباب أغلبها سياسي وبعضها ثقافي واجتماعي تمكن المذهب الجعفري من الارتقاء لمرتبة الدين الرسمي للدولة ففرضته الدولة واعترفت به كإطار مرجعي لقوانينها، وشكلت هيئة شرعية من رجاله ليكونوا حراسا عليه فلا يمكن لقانون أن يُمرّر دون الرجوع إلى هذه الهيئة لمراجعته والتأكد من موافقته لمذهبها، الذي هو مذهب الدولة، لهذا فإن إيران التي تطلق على نفسها "دولة إسلامية" والتي تقول إنها تطبق "الإسلام" منذ الثورة "الإسلامية" تعتبر الدعوة للمذهب السني جريمة (رغم أن المذهب السني مذهب إسلامي) لأنها تهدد "سلامة المجتمع"، ولنا أن نتساءل ما الذي يضير مسلمين من دعوة مسلمين آخرين للإسلام، حتى ولو كان وفق مذهب آخر؟! هذا بالنسبة لإيران، الأمر نفسه في السعودية التي هي في الأصل مسماة على اسم حكامها (هي الدولة الوحيدة في العالم التي ما زالت على هذا النحو!) فرغم نشأة الفرق الإسلامية كلها في أرضها أو بالقرب منها فإن أرض الجزيرة (نواة تشكيل الدولة السعودية) لأسباب كثيرة ارتقت فيها فرقة أهل السنة والجماعة لتصبح الفرقة الرسمية لولاتها، ثم غلب فيها المذهب السلفي ثم غلب الفقه الحنبلي من بين المدراس الفقهية لأهل السنة والجماعة، ثم غلبت في النهاية المدرسة الوهابية التي وافقت هوى مؤسس الدولة السعودية الذي تحالف مع بن عبد الوهاب لنشر مدرسته الفقهية في مقابل مساندته في توحيد أهل الجزيرة في دولة واحدة، لتصبح السعودية اليوم دولة دينية تعتمد الفقه الوهابي تحت لافتة أكبر هي الإسلام، كما لو أن الوهابية هي كل الإسلام، وما يخالفها خارج عن الإسلام. ولعل الحملة التي قادها ابن محمد علي باشا ضد آل سعود كانت لأسباب سياسية دينية في الوقت نفسه، ففضلا عن رغبة الباب العالي في إعادة الجزيرة العربية للدولة العثمانلية فقد كان ثم صراع ديني خفي بين محمد علي وآل سعود أيضا، ذلك أنه في حين أن الدولة في الجزيرة العربية تسيطر على الأماكن المقدسة للمسلمين فإن الأزهر كان المرجع الديني لعموم المسلمين في سائر بلادهم. لهذا يبدو ثم صراع مكتوم اليوم بين السلفيين في مصر (التابعين للوهابية السعودية) وبين الأشعرية الصوفية الماتردية للأزهر. الخلاصة، كما أنه من الخطأ القول إن السعودية اليوم هي دولة دينية إسلامية وأنه من الأصوب القول بأنها دولة تتبع أهل السنة والجماعة وهابية الفقه، فإنه من الخطأ القول بأن السودان دولة إسلامية وباكستان دولة إسلامية وأفغانستان دولة إسلامية دون تحديد المذهب والمدرسة الفقهية، ويكون من الخطأ أيضا القول بأن أيا من المدارس الفقهية التي تتبعها تلك الدول هي الإسلام بألف ولام التعريف، مهما بدا أن هذه المدارس الفقهية لديها ما تتشاركه، وحتى ولو اجتمعت هذه الدول جميعا على تحريم التشيع (أو الاعتزال الذي هو بالمناسبة مذهب ضمن مذاهب أهل السنة والجماعة) باعتباره ال "لا إسلام"، وباعتبار المذهب الذي تتبعه بتنوع مدراسه الفقهية ليس هو الإسلام فقط وإنما أيضا الذين يتبعوه ويؤمنون به هم فقط "الفرقة الناجية" من بين كل عموم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. لكل هذا يكون لسؤال المقال المشروعية اللازمة. لأننا نصبح بإزاء إسلامات لا إسلام وحيد، وبإزاء فرق كل واحدة تظن في نفسها أنها الفرقة الناجية الوحيدة وبقية الفرق على الباطل وفي النار. ولهذا قلت وأقول إننا كمسلمين متخلفون لأننا ما زلنا أسرى لحظة تاريخية فارقة في تاريخ الإسلام، وهي لحظة "الفتنة الكبرى" تلك الفتنة "السياسية" التي أعقبت مقتل عثمان، رابع الخلفاء الراشدين، ففرّقت المسلمين شيعا دينية كثيرة، وهو ما كان يمكن تجنبه لو أن الخلاف السياسي ظل في الفضاء السياسي ولم تغذيه النصوص الدينية، أو باختصار لولا مخالطة الديني بالسياسي. كان يمكن للمسلمين المختلفين سياسيا أن يتفرقوا سياسيا ويحافظوا على إسلامهم كما نزل على نبي الله محمد، فقد كانت الآية تنزل عليه فيفهمها كل السامعين دون مشقة ودون خلاف ودون تحزب، ولكن للأسف وجد هؤلاء المختلفون من يبرر مواقفهم السياسية بما هو ديني، ومن يغذي الخصومة السياسية بينهم بما هو ديني، ومن يقتل زوج ابنتي رسول الله باسم كل ما هو ديني، وأن يمنع أهله عن دفنه أربعة أيام باسم كل ما هو ديني وأن يجبرهم على دفنه في مدافن اليهود أيضا باسم كل ما هو ديني. وفي النهاية أقول لقارئ هذا المقال من يحدثك عما هو صحيح في الإسلام (بألف ولام التعريف) قل له أنت كاذب فأنت "مذهبي" وما تحدثني عنه هو رأي رجال مذهبك وإن قال لك هذا ما أجمعت عليه "الأمة" فقل له هذا ما أجمعت عليه الأمة في "مذهبك" بل في مدرستك الفقهية الضيقة. أما أنا فسوف أقول له: الدين واحد لأن الرب واحد وأنتم تمزقكم الطائفية وتقتل قلوبكم الكراهية باسم الإسلام، وتكفرون بعضكم بعضا لأنكم سجناء التقليد والعادة والوراثة. Comment *