وزير الأوقاف يؤدي صلاة الجمعة بمسجد "التعمير" في قرية الخربة ببئر العبد في شمال سيناء (صور)    الإدارية العليا: إستقبلنا 10 طعون على نتائج انتخابات مجلس الشيوخ    الجمعه 15 أغسطس 2025.. الذهب يتراجع 15 جنيها وعيار 21 يسجل 4565 جنيها    تقرير: انخفاض الصادرات الأوكرانية بنسبة 4.2% في النصف الأول من عام 2025    محافظ أسيوط: إزالة 31 حالة تعد على أراضي الدولة ضمن المرحلة الأولى من الموجة 27    «الزراعة» تطلق حملة لتحصين الماشية ضد «العترة سات 1»    بالأرقام.. «المركزي للإحصاء» يكشف أسباب انخفاض معدل البطالة    أمين حزب الله: لن نسلم سلاحنا وسنخوض معركة كربلائية إذا لزم الأمر    مفوضة الاتحاد الأوروبى للمتوسط تعرب لوزير الخارجية تطلع الاتحاد للعمل مع مصر في إعادة إعمار غزة    بسبب تداعيات الأمطار الموسمية| تحطم مروحية إنقاذ ومصرع جميع أفرادها في باكستان    يديعوت أحرونوت: الجيش الإسرائيلي يستعد لمناورة جديدة في غزة الشهر المقبل    فيبا بعد تأهل منتخب مصر: يمتلكون كل المقومات في بطولة الأفروباسكت    الكوكي: طوينا صفحة الطلائع.. ونحذر من الاسترخاء بعد الانتصارات    مواعيد مباريات اليوم الجمعة 15 أغسطس 2025 والقنوات الناقلة.. الأهلي ضد فاركو    العريان: نسير بخطوات ثابتة نحو قمة العالم استعدادًا لأولمبياد 2028    ذروة المصيف بالإسكندرية.. 3 شواطئ تصل إشغال 100% وتحذيرات من التكدس    ضبط 15 متهما باستغلال الأطفال في التسول بشوارع القاهرة    غدا.. انكسار الموجة على أغلب الأنحاء والعظمى بالقاهرة 36 درجة    إصابة 5 أشخاص في انقلاب ميكروباص بطريق مصر - الفيوم الصحراوي    «سلامة قلبك».. نانسي عجرم تساند أنغام في أزمتها الصحية    21 أغسطس.. تامر عاشور يحيي حفله الأول في ليبيا ضمن مهرجان صيف بنغازي    حوار| محمد نور: لا مانع من تجربة المهرجانات.. وهذا سبب انفصال نادر حمدي عن "واما"    متحف الإسماعيلية يحتفي بوفاء النيل بعرض تمثال حابي إله الخير والخصوبة    الصحة: حملة 100 يوم صحة قدّمت 47 مليونا خدمة طبية مجانية خلال 30 يوما    نجاح جراحة دقيقة لطفلة تعاني من العظام الزجاجية وكسر بالفخذ بسوهاج    ضبط مسؤول مخزن مستلزمات طبية دون ترخيص في القاهرة    فابريزيو رومانو: مانشستر يونايتد يمنح الضوء الأخضر لروما للتعاقد مع سانشو    ياسر ريان: لا بد من احتواء غضب الشناوي ويجب على ريبييرو أن لا يخسر اللاعب    تفاصيل أولى جلسات الحوار المجتمعي حول قانون التعاونيات الزراعية الجديد    ماريسكا: جاهزون للموسم الجديد.. وتشيلسي أقوى من العام الماضى    ألمانيا تدعو إسرائيل إلى وقف بناء المستوطنات في الضفة الغربية    أقوى رسائل السيسي عن آخر تطورات أزمة سد النهضة وحرب غزة    أمين عمر حكما لمواجهة كينيا وجامبيا في تصفيات كأس العالم    فوائد البصل، يحارب العدوى والسرطان والفيروسات والشيخوخة    جميلة عوض تعوض غيابها عن السينما ب4 أفلام دفعة واحدة    «الصبر والمثابرة».. مفتاح تحقيق الأحلام وتجاوز العقبات    أسعار البيض اليوم الجمعة 15 أغسطس    سلطة المانجو والأفوكادو بصوص الليمون.. مزيج صيفي منعش وصحي    قلبى على ولدى انفطر.. القبض على شاب لاتهامه بقتل والده فى قنا    ضربات أمنية نوعية تسقط بؤرًا إجرامية كبرى.. مصرع عنصرين شديدي الخطورة وضبط مخدرات وأسلحة ب110 ملايين جنيه    رئيس الأوبرا: نقل فعاليات مهرجان القلعة تليفزيونيا يبرز مكانته كأحد أهم المحافل الدولية    الداخلية تضبط عصابة تستغل أطفالاً في التسول وبيع السلع بالقاهرة    رئيس "التخطيط القومي" يستقبل مدير المبادرة الدولية لتقييم الأثر    الأنبا إيلاريون يشارك في احتفالات نهضة العذراء بوادي النطرون    الدكتور عبد الحليم قنديل يكتب عن : المقاومة وراء الاعتراف بدولة فلسطين    حزب الله: قرار نزع سلاح المقاومة يجرد لبنان من السلاح الدفاعى    موعد إجازة المولد النبوي الشريف 2025 للموظفين.. «إجازه مولد النبي كام يوم؟»    أجمل رسائل تهنئة المولد النبوي الشريف مكتوبة    مفتي الجمهورية يستنكر التصريحات المتهورة حول أكذوبة «إسرائيل الكبرى»    بدرية طلبة تتصدر تريند جوجل بعد اعتذار علني وتحويلها للتحقيق من قِبل نقابة المهن التمثيلية    نفحات يوم الجمعة.. الأفضل الأدعية المستحبة في يوم الجمعة لمغفرة الذنوب    د.حماد عبدالله يكتب: الضرب فى الميت حرام !!    ما هو حكم سماع سورة الكهف من الهاتف يوم الجمعة.. وهل له نفس أجر قراءتها؟ أمين الفتوى يجيب    رسميًا ..مد سن الخدمة بعد المعاش للمعلمين بتعديلات قانون التعليم 2025    خالد الغندور: عبد الله السعيد يُبعد ناصر ماهر عن "مركز 10" في الزمالك    «هتستلمها في 24 ساعة».. أماكن استخراج بطاقة الرقم القومي 2025 من المولات (الشروط والخطوات)    هترجع جديدة.. أفضل الحيل ل إزالة بقع الملابس البيضاء والحفاظ عليها    تعرف على عقوبة تداول بيانات شخصية دون موافقة صاحبها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. محمد محفوظ : ثورة 23 يوليو .. أخطاء أم خطايا ؟!!
نشر في البديل يوم 23 - 07 - 2012

( من لم يتعلم من التاريخ تتعطل خطواته نحو المستقبل )
قول مأثور
عام 1970 م عندما توفى جمال عبد الناصر , كان عمري 6 سنوات , وجلست أبكى طوال مساء هذا اليوم خوفاً من دخول اليهود إلى مصر بعد موت عبد الناصر . كان هذا تفكيري وأنا طفل صغير وسط هذا الجو المشحون , الذى توقفت فيه كل من برامج التلفزيون والإذاعة واقتصرت على آيات القرآن الكريم وأغنية " الوداع يا جمال يا حبيب الملايين" ؛ والذى ظهرت فيه عبارة تقول : ( أن القوالب نامت, والنُصاص قامت ) , وطبعاً كان المقصود بالقوالب: عبد الناصر, والمقصود بالنُصاص : السادات .
وعندما قامت حرب أكتوبر ؛ قت بملء كراسات الرسم بمشاهد الدبابات التي تعبر على الكباري لتصل إلى الضفة الأخرى من القناة , مخترقة خط بارليف والنقاط الحصينة .
وعندما سافر السادات إلى القدس كنت يومها في بيت جدي بمنطقة الشاطبى بالإسكندرية , وكانت الأسرة كلها مجتمعة أمام التلفزيون . وعندما تطرق السادات فى خطابه أمام الكنيست إلى تاريخ الأنبياء في المنطقة , علق أحد أفراد الأسرة عل خطابه واصفاً إياه بأنه : غاوي حكايات . واستهواني هذا الوصف وبنيت عليه موقفي من السادات عندما أصبحت في سن المراهقة . وكنت أجادل المؤيدين لكامب ديفيد قائلاً : أن السادات أضاع نصر أكتوبر هباء ؛ لأن سيناء مازالت متدرجة نزع السلاح , ولا سيادة كاملة للجيش المصرى على كامل مساحتها , وأن إسرائيل ضحكت على مصر لتخرجها من النزاع العربى الإسرائيلي وتستفرد هى بالعرب .
ومع دخولى إلى كلية الهندسة بجامعة الإسكندرية , بدأت قراءة الكتب الماركسية واليسارية , وكنت مبهوراً برجال وزعماء مثل ماركس وإنجلز ولينين وستالين . وقرأت كتاب كفاحي لهتلر , وكنت أعتبره عنواناً على المسيرة العظيمة لقائد تاريخى ومفكر عملاق !!
ولكننى لم أستمر بكلية الهندسة , وقمت بتحويل مساري التعليمي إلى كلية الإعلام جامعة القاهرة عام 1984 م ؛ وسافرت فى نفس العام فى رحلة سياحية إلى إنجلترا والدنمارك واليونان , وعرفت وقتها أن السفر إلى الغرب هو سفر فى الزمان وليس فى المكان , لأنه سفر إلى المستقبل الذى لم نصل إليه بعد فى المنطقة العربية , وبدأت حيرتي العقلية منذ ذلك الحين , وتمحورت حول عدة تساؤلات منها :
- كيف يكون الغرب الإمبريالي الاستعماري هو الذى يحترم حقوق مواطنيه , ويحترم العلم والعقائد وحرية التعبير , وكيف تكون كافة منجزات الحضارة العالمية الراهنة من إنتاجه ؟
- كيف يكون الإتحاد السوفيتي قبلة العدالة الاجتماعية , وحصن الدفاع ضد الامبريالية , وحامل لواء التقدمية هو الذى يقمع مواطنيه ويعصف بحقوق الإنسان , وينشر الفقر والشقاء فى كل الدول التى تسير فى ظله ؟
واستمرت حيرتى العقلية حتى أتممت دراستى بكلية الإعلام , ثم التحقت فى خضم هذه الحيرة بكلية الضباط المتخصصين بأكاديمية الشرطة ؛ لأتخرج ضابط شرطة ؛ وفى ظل مناخ العمل فى وزارة الداخلية غير المتوائم مع خلفيتى العلمية والتعليمية ؛ ازدادت حيرتى العقلية ؛ مما دفعنى إلى تطوير قراءاتي التى اتسعت كثيراً مع إعدادى للماجستير والدكتوراه . فتعرفت عن كثب على الفكر الديموقراطى وحقوق الإنسان والمجتمع المدنى والمنظمات غير الحكومية . وأيقنت وقتها بأن الديموقراطية هى الطريق السليم لكى تنهض مجتمعاتنا من تخلفها المذري .
وبمراجعتي لكل قناعاتي السابقة ؛ أيقنت بأن الزعماء الذين على شاكلة: جمال عبد الناصر, ليسوا إلا شخصيات تصادمية تكتسب حب الجماهير وتخلب عقولها باللعب على وتر الكراهية والتعصب , من خلال تأليب الطبقات على بعضها البعض داخل المجتمع الواحد , أو تأليب الشعب على شعوب الدول الأخرى التى تتصادم أيدلوجياً مع فكر الزعيم .
كما أيقنت ؛ نتيجة انخراطى داخل حصون الدولة البوليسية بوزارة الداخلية ؛ بأن حكم العسكر لا يمكن أن يقدم أية تنمية أو ديمقراطية أو احترام لحقوق الإنسان . وأن حكم بعض العسكر فى الدول الغربية ليس إلا استثناءً , لأنها دول راسخة ديمقراطياً وتحكمها مؤسسات وليس أفراد , و بالتالي لم يؤدى حكم ديجول لفرنسا ؛ أو إيزنهاور لأمريكا إلى عسكرة الحكم . ولكن في الدول غير الراسخة ديمقراطياً يؤدى حكم العسكر إلى تحويل البلاد إلى معسكر كبير , تحكمه قواعد السمع والطاعة والأحكام العسكرية والأوامر والتوجيهات التى لا تحتمل ولا تطيق المعارضة .
وراجعت إنجازات عهد جمال عبد الناصر فوجدتها وهماً كبيراً , لأنها إنجازات أجهضت التعددية وخاصمت الديمقراطية وقيدت الحريات وأطلقت يد الأجهزة الأمنية . ووجدت أنه لا يمكن لأي إنسان يحترم إنسانيته وإنسانية الآخرين , أن يدافع عن نظام حكم استبدادي يحتكر السلطات كلها بين يديه , ويففتح المعتقلات لتعذيب معارضيه , ويتعامل مع الجماهير بمنطق وزير الدعاية النازي جوبلز , ويضحى بمصلحة بلاده من أجل شعارات قومية ورغبة مستميتة في الزعامة لتحقيق الوحدة العربية , التي لم تصبح وحدة - بأي حال - طالما ارتهنت بزعيم أوحد وليس بزعماء متعددين . ولذلك فشلت الوحدة العربية بزعيمها الأوحد , بينما نجح الاتحاد الأوربي بزعمائه المتعددين . كما أن التصادم مع القوى الغربية المتقدمة لا يشير إلى حصافة سياسية أو ذكاء فطرى , وإنما يشير إلى رعونة واستهتار بمصالح الشعب والدولة , من أجل أيدلوجيات لا تساهم فى إطعام الناس وكسوتهم وتعليم أبناءهم ورعايتهم اجتماعياً و صحياً . وبالتالي يظل هذا الموقف المبدئي قائماً فى مجال تقييم كل من: عهد السادات وعهد مبارك , فاستمرار عدم التداول السلمي للسلطة والديمقراطية العرجاء وتزوير الانتخابات والفساد والدولة البوليسية , كلها خطايا لا يمكن التغاضي عنها عند تقييم أى نظام حكم, لأنها إهدار للقيم الإنسانية الفطرية التى فطر الله الناس عليها .
عندما وصلت لذلك الوعى الديموقراطى , أيقنت إنني يجب أن أناصب كافة المستبدين العداء , لأن الجبروت والاستبداد والظلم والطغيان ينبغى تقبيحهم فى وجدان الناس . وبالتالى لا مهادنة فيما يتعلق بحقوق الإنسان وكرامته وحريته التى منحها له الله .
كما أيقنت بأن جهلي الطفولى هو الذى جعلنى أبكى يوم وفاة: عبد الناصر, لخوفي من دخول اليهود إلى مصر , رغم أن عبد الناصر كان هو السبب فى دخول الإسرائيليين لمصر , بينما كان موته وقدوم السادات هو الذى أخرجهم منها . كما أدركت أن سيناء المتدرجة نزع السلاح أفضل من سيناء المحتلة , مثلها مثل اليابان العظيمة اقتصادياً المقيدة عسكرياً . وأن إسرائيل لم تضحك على مصر بدليل استعادتنا لطابا بالتحكيم , والتزام إسرائيل حتى الآن بكافة بنود معاهدة السلام . وأن خروجنا من دائرة الصراع هو أمر بديهي , فلا صراع أبدي , ولا عداوات مستحكمة . وأن استعادتنا لأرضنا المحتلة لا يعنى تنازلنا عن دعم الآشقاء لاستعادة أراضيهم ؛ بشرط اعتناق أسلوب الواقعية السياسية ومفارقة منهج الشعارات الحنجورية .
كما أيقنت أن سذاجتي ومراهقتي الفكرية, هي التي جعلتني أنبهر بالأيدلوجية الماركسية والفكر النازي والنظرية الاشتراكية غير الديموقراطية , لأن انهيار الاتحاد السوفيتي كان أكبر دليل على فساد هذا الفكر وتصادمه مع الفطرة الحقيقية للإنسان .
... أستعيد دائما هذه الذكريات فى كل عام عندا تحل ذكرى ثورة يوليو أو عندما تحل ذكرى وفاة الرئيس جمال عبد الناصر ؛ ويزداد يقينى فى كل مرة بأن المصريين لن يستطيعوا الانطلاق نحو المستقبل لو ظلت أقدامهم مقيدة بأكاذيب الماضى الفاحشة .
ولقد كنت أُصاب بالإحباط أثناء مشاركتى فى مظاهرات 25 يناير ؛ عندما أرى بعض المتظاهرين يرفعون صور جمال عبد الناصر وشعاراته ؛ لإننى كنت أدرك بأن الشعب المصرى يستطيع أن يسقط النظام لو امتلك إرادته ؛ ولكنه لن يستطيع أن يبنى نظاماً ديموقراطياً جديداً إلا لو امتلك وعيه .
ولذلك ينبغى علينا جميعاً محاكمة ماضينا بكل جرأة وتجرد ؛ ليس من أجل الدخول فى صراعات عبثية لتمزيق ملابسنا ؛ وإنما من أجل عدم الاستسلام لخداع الذات ؛ ومن أجل امتلاك وعينا ومن أجل إحقاق الحق ؛ ومن أجل وصف كل شخص بما يستحق . فمن الخبل أن نمجد الطغاة ونحلم بالعدل ؛ ومن السخف أن نحترم الفاشلين ونتوقع النجاح .
لذلك لن يمتلك المصريون وعيهم إلا عندما يوقنوا بأن جمال عبد الناصر وثورة يوليو قد أساءا إلى مصر وإلى الشعب المصري أكثر مما أحسنا إليها أو إليه . وعندما يعترفوا بأن جمال عبد الناصر وثورة يوليو لم يرتكبا أخطاء وانما ارتكبا خطايا ؛ دفع ثمنها أجيال وأجيال .
وبالتالى .. وحتى نمتلك وعينا .. تعالوا نتعرف معا على خطايا جمال عبد الناصر وثورة يوليو فى حق مصر والمصريين :
أولاً : على المستوى السياسى .. ضرب جمال عبد الناصر وثورة يوليو ؛ الحياة السياسية فى مقتل , وجمدا التطور السياسى الطبيعى للتجربة الحزبية فى مصر , التى مهما ما كانت عليه من فساد وضعف , فقد كان مآلها الطبيعى هو النمو والازدهار وليس التجميد و الانحسار . ولم يكن الاتحاد الاشتراكى بأى حال بديلاً طبيعياً للتجربة الحزبية , بل كان تنظيماً شمولياً يقوم على مبادئ الانتهازية السياسية وتأليه الحاكم الفرد وتمرير السياسات الاستبدادية . ومازال الضعف الذى تعانى منه الحركة الحزبية فى مصر حتى الآن نابعاً من الخطوة الكارثية التى اتخذها جمال عبد الناصر وثورة يوليو عندما جمدا النشاط الحزبى فى مصر .
ثانياً : على المستوى الاقتصادى .. دمر عبد الناصر وثورة يوليو ؛ التجربة الرأسمالية الوليدة فى مصر والتى كانت تحتاج إلى المزيد من العدل الاجتماعى الذى كان سيتولد مع التطور السياسى للحركة الحزبية والعمالية والنقابية , ولكن سياسات التأميم نصبت العسكر على مقاعد الإدارة فى المصانع وحلت عقلية الأوامر والتوجيهات الصارمة محل عقلية المرونة والتفكير العملى لدى رجال الأعمال , ولم تصنع التجربة الناصرية لا الإبرة ولا الصاروخ , وإنما فبركت سيارة مسخرة تسمى ( رمسيس ) كانت عنواناً على بؤس التجربة الصناعية لحكم العسكر . ولعل الطفرة التى حدثت فى الخطة الخمسية الأولى لم تكن إلا من نتاج التراكمات المالية من تأميم الملكيات الصناعية , وليس من نتاج قاعدة إنتاجية نشيطة تملك خلفية البحث العلمى والعقلية الابتكارية .
بينما أدى قانون الإصلاح الزراعى إلى تخريب الاقتصاد الزراعى فى مصر عندما تم تفتيت الملكيات الزراعية وتوزيعها على الفلاحين بواقع خمسة أفدنة للفلاح , ونسى جمال عبد الناصر بأن الشريعة الإسلامية من خلال نظام المواريث تؤدى إلى تفتيت الملكية . وبالتالى فإن الفلاح الذى حصل على 5 أفدنة ستتفتت ملكيته الصغيرة لتتحول إلى بضعة قراريط يمتلكها أبناءه , وبالتالى انهار النشاط الزراعى الذى لا ينمو - وفقا لبديهيات الاقتصاد الزراعى - إلا فى ظل الملكيات الكبيرة .
وكانت كارثة الكوارث فى تجربة الحكم الناصرى وثورة يوليو ؛ تتمثل فى تخفيض إيجارات المساكن وتجريم خلو الرجل , الأمر الذى أدى إلى هروب المستثمرين من بناء المساكن للإيجار والتحول إلى نظام التمليك , وبدلاً من أن يدفع المواطن جزء من راتبه لكى يستأجر شقة , أصبح مطلوباً منه أن يدفع ثروة لن يجمعها إلا بعد 40 سنة لكى يحصل على مسكن . بينما تحولت العقارات القديمة التى أصابتها التخفيضات فى القيمة الإيجارية إلى خرابات لا يمكن لملاكها صيانتها نتيجة الأجرة الزهيدة و امتداد عقود الإيجار للمستأجرين إلى ما لا نهاية . وسيذكر التاريخ أن المناطق العشوائية و كل الضحايا الذين ماتوا تحت أنقاض العقارات القديمة المنهارة أو العقارات التمليك التى تم بناءها بعد ذلك فى عصر الانفتاح , كلها معلقة فى رقبة عبد الناصر وثورة يوليو نتيجة السياسة الكارثية فى مجال الإسكان , التى أدت إلى أزمة إسكان مستحكمة ليس لها مثيلاً فى أى مكان بالعالم ومازالت توابعها تتراكم يوماً بعد يوم .
ثالثاً : على المستوى العسكرى .. تم استنزاف الجيش المصرى من خلال تنصيب قيادة عشوائية على قمته تتمثل فى عبد الحكيم عامر وزير الدفاع ؛ و من خلال توريطه فى نزاعات خارجية مثل حرب اليمن ؛ ومن خلال بريق المناصب المدنية التى رأى العسكريون أن أقرانهم يغترفون فيها من ذهب السلطة وبريقها وهيلمانها بعيداً عن جفاء الحياة العسكرية وصرامتها . وبالتالي أصبح الجيش المدخل للعمل السياسي أو الاقتصادي وليس العسكري , مما أصاب المؤسسة العسكرية المصرية في مقتل تجلت أولى نذره فى يونيو 1967م .
رابعاً : على المستوى الاجتماعي .. أسس عبد الناصر وثورة يوليو ؛ لفوضى طبقية كانت هى المسئولة عن تدمير الطبقة الوسطى فى مصر وليس كما يدعى غلاة الناصرية بأن سنوات الانفتاح هى المسئولة عن ذلك . فالطبقة ليست مجرد تراكم مالى وإنما هى تراكم فى العادات والتقاليد والقيم والأصول , وبالتالي فإن تدمير طبقة ما يعنى تدمير كل تلك الجوانب التى هى جزء من تراث أى أمة , ويتعجب الإنسان من ارتباط الطبقة التى دمرها عبد الناصر وثورة يوليو بعدد كبير من الإنجازات العظيمة فى المجالات الفكرية والفنية والمعمارية والتعليمية والخيرية والسياسية والاقتصادية . ولهذا كان تدمير الطبقة بمثابة تدمير لكافة منجزاتها , وكأن علينا أن نبدأ دائماً من الصفر كلما جاء فرعون دمر آثار الفرعون السابق . ولقد أدت الفوضى الطبقية إلى ترييف المدن فزحفت قيم القرية إلى المدينة , رغم أن قيم القرية لا تصلح إلا للقرية وقيم المدينة لا تصلح إلا للمدينة , و تكفل من بعد ذلك عصر السادات بأن تزحف قيم المدينة إلى القرية , وهكذا تم ترييف المدينة فتخربت المدن ؛ وتم تمدين القرية ففسدت القرى ؛ ثم تكفل عهد مبارك بتدمير أى قيم باقية لتتساوى القرية والمدينة فى شيئين لا ثالث لهما هما : الفساد والعشوائية .
خامساً : على مستوى العلاقات الدولية .. وهو الوهم الذى يوجع به أدمغتنا الناصريون والقوميون العرب ؛ بأن العرب كان لهم عزة وكرامة أمام باقى الأمم بفضل عبد الناصر وسياساته الخارجية . ولا أدرى ما هو معنى العزة والكبرياء والكرامة فى العلاقات الدولية . فالسياسة هى : علم إدارة المصالح والأصول الوطنية وتنظيم المجتمعات الإنسانية . وفى الفقه السياسى المصلحة هى الإستراتيجية والولاء هو التكتيك ؛ فأينما وُجدت المصلحة اتجه مؤشر الولاء ؛ وبالتالى لا توجد فى السياسة صداقات دائمة أو عداوات مستحكمة وإنما صديق الأمس يمكن أن يكون عدو اليوم ؛ وعدو اليوم يمكن أن يكون صديق المستقبل . و لكن جبال الكبرياء مثل عبد الناصر يديرون العمل السياسى وكأنه قضية شخصية وكرامة ذاتية ؛ وبالتالى تندلع الحروب و تسيل دماء الشباب و تتخرب المدن و يتم تهجير سكانها ؛ وكل ذلك من أجل كبرياء وعناد رجل واحد . فأى كرامة تلك عندما يتحكم فى أمة أو شعب كبرياء رجل واحد , أى كرامة تلك عندما ترتهن مصائر الشعوب بالكرامة الشخصية لفرد يمكن أن يخطئ كما يمكن أن يصيب . و بالتالى كانت النتيجة الطبيعية لذلك الكبرياء الذى لا يسمع إلا صوت صاحبه أن يتم مسح الأرض بكرامتنا جميعا فى يونيو 67 نتيجة عشوائية المشير وعناد جبل الكبرياء , و باتت مصر دولة مهزومة معزولة على المستوى الغربى , بل و العربى , فقد خشى العرب على ممالكهم وجمهورياتهم وإماراتهم من تطلعات جبل الكبرياء الى الزعامة والتحكم والتسلط ....
... من المفجع أن ترى الملك عارياً ؛ ولكن الفجيعة الآكبر أن يكون الملك عارياً والآخرين كلهم يرونه كذلك ماعدا أنت ؛ لأنه عندئذ عليك أن تتحمل سوء التفسير لوجودك منفرداً مع الملك وهو عارى.
أقول ذلك ؛ لمن مازالوا بعد ثورة 25 يناير يدافعون عن جمال عبد الناصر وثورته وزمانه ؛ وكنت أتمنى بدلاً من ان يكتب الأستاذ هيكل كتاباً عن : مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان ؛ أن يكتب كتاباً عن : عبد الناصروثورة يوليو من حلم الحرية إلى كابوس الاستبداد ..
لست من أبناء مبارك ولا من مريدي السادات , فكلهم من معين واحد ؛ عسكر فى عسكر , حكموا مصر بالحديد والنار ومكنوا الفاسدين والمستبدين والفاشلين من مقاعد السلطة , فكانت النتيجة الخراب .
كلهم سلسال واحد كان يسلم الراية لمن يليه ؛ والضحية هى مصر والشعب المصرى ..
لذلك إذا أراد الشعب المصرى أن يمتلك مستقبله ؛ فعليه أن يحاكم ماضيه ليفضح المستبدين السابقين ؛ فيمتلك وعيه ؛ فينفضح المستبدين الحاليين .......
*****
دكتور / محمد محفوظ
[email protected]
Comment *


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.