” الثورة الضاحكة ” ، كان أول وصف يُطلق على ” ثورة 25 يناير “، ذلك الوصف الذي خلعته عليها محطة ” بي بي سي ” الاخبارية ، بتقريرها الذي لاقى استحسان الكثيرين ، نظرا لأنه يؤكد تلك ” الفرادة ” التي يُحب المصريون ، أن يوصفوا بها كشعب ” ابن نكته” رغم أن هذا يمكن أن يتصادم بشكل ما مع وصفه الآثير الآخر، باعتباره ” ابن سبعة آلاف سنة حضارة “. وربما يذكر الكثيرون أن يافطة :” ارحل بقى ، ايدي وجعتني ” ، التي رفعها أحد الثوّار الذين أرادوا أن يبلسموا ما بدأ يتسرب إليهم من يأس ، خلف ستار الضحكات، كانت بداية ” الافيهات” ،التي استمرأ آخرون المشاركة فيها كل ب”افيهه” ، فرأينا :” ارحل بقى عايز أحلق شعري” ، مرفوعة بيد من يبدو شعره لم تمتد إليه يد بمقص، منذ عدة أشهر على أقل تقدير . و” ارحل بقى عايز ارجع لعروستي ” ، على لسان من وصف نفسه ب ” عريس جديد” . كانت اللافتات المرفوعة في أيدي الثوّار الشبان، الذين يتذوقون طعم التمرد الجماعي، للمرة الأولى ( إذ أن معظم الذين احتشدوا في الميادين لم يكونوا ممن شهدوا انتفاضة الخبز في شتاء 1977، وربما لم يكونوا قد ولدوا مع تمرد الأمن المركزي شتاء 1986.) تبدو لافتات مضحكة فعلا ،( وموجعة أكثر ) اذا تذكرنا أنها أتت بعد أقل من أسبوع على ” جمعة الغضب ” ،حيث كانت ميادين مصر مسرحا مفتوحا لصراع ارادات شرس، بين اجرام رصاص غادر يقنص أرواح شابة تتوق للحرية المُغيّبة . وبين أرواح ارتدت مسوح الاستشهاد، كي لا تغرُب شمس ” جمعة الآلام ” العظيمة، الا وقد غرُب معها نظام حسني مبارك، الذي جثم على صدر مصر،ثلاثة عقود كاملة. كان عجيبا، والحال هذه ، أن يتبارى المصريون، بعد عدة أيام فقط، في اختراع ” افيه ” تصطاده وسائط “الميديا” المتعطشة لنقل كل ما من شأنه أن يرمي حجرا في بركة الملل ، التي وجد الجميع أنفسهم أسرى لها ، مع خطابات مبارك المتلفزة ، التي أبقت الجميع على يقين من أن المسألة ستطول حتما ،بعدما بدا مبارك مُصرا على ألا يرد على لسانه كلمة ” فهمتكم” التي ألقاها بن علي ،قبل أن تحمله الطائرة الرئاسية إلى جدة ، فلا مفر إذن من بعض التفكُه ، على سبيل تزجية الوقت، حتى “يفهم” مبارك ، البليد ، الذي ربما كانت أصدق اللافتات التي خاطبته تلك التي كتب فيها صاحبها الأريب :” ما بيفهمش عربي ، كلموه بالعبري”! . ورحل مبارك ، من قصره الرئاسي بالقاهرة ، بعدما كان آخر اتصال تلّقاه، قد جاءه من “صديقه” الوزير ” الإسرائيلي” ، بنيامين بن اليعازر . رحل مبارك لا الى “جدة “، ليلحق بزميله بن علي ، كما خمّن الثوار ، في لافتاتهم الضاحكة / المضحكة ، بل إلى ” شرم الشيخ” التي وصلها على متن طائرته الرئاسية ، ونزل في القصر الرئاسي الذي اعتاد النزول فيه ، طيلة العشرين سنة الأخيرة من حكمه . بعدما أعلن نائبه ، عمر سليمان ، ” تخليه عن ادارة البلاد ” واسنادها الى ” المجلس العسكري” ، الذي اصطفاه مبارك على عينه ، وفقا للمعايير التي ظلت حاكمة في اختياراته لمعاونيه ، طيلة حكمه ، والتي يعرف القاصي والداني ،وحتى أهلنا في الصعيد الجواني ، أن اعتبارات الولاء فيها ،تتقدم بأشواط على اعتبارات الكفاءة ( ان كانت الكفاءة معيارا للترقي ، في منظومة خربة ،حتى النخاع! ). وسيرا على النمط الذي ظل حاكما للمسيرة ” الثورية ” ، منذ ” ارحل بقى ايدي وجعتني ” لم يتوقف الثوار، ليتفحصوا المشهد ،كي لا تعلق أقدامهم بالشرّك ، الذي تم اعداده بإحكام ،بل انشغلوا الى حد بعيد بهوّية الرجل العابس ” الواقف وراء عمر سليمان”، في بيانه ذي الثلاثين ثانية ، الذي كان فخا ، من “دولة العواجيز” ، الذين راهنوا ، بخبرتهم التآمرية العريضة ،على أن من أوجعته يده من حمل لافتة مطلب “الرحيل” ، كيفما اتفق ،لن يبقى في الميدان بعد الرحيل ،لأي سبب كان ، وقد كان! لقد استغرقتنا “الافيهات” ،تأليفا ومتابعة وتعليقا ، حتى أنهكتنا ،خاصة وقد بدت الحياة السياسية بدءا من 11 فبراير، أشبه ما تكون بملهاة ،تُضحك الثكلى ، اذ تم اطلاق العنان لمن هم على شاكلة توفيق عكاشة ، فانفلتوا من كل قيد ، وخرجوا على كل نص ، طلبا لاستدرار ضحكات جمهور اعتاد معظمه أن يدخل دور السينما طيلة العقد الأخير من أجل الضحكات الفجّة ، التي تغازل غرائزه الدنيا . ما انعكس بظلاله القاتمة ، على ثورتنا ايضا ، التي لم يمض يوم من أيامها بغير ” افيه ” لاذع ، أو ” نكتة حرّاقة” ، من دون أن نتوقف للحظة ، عند حقيقة تبدو كاشفة ومرعبة: أن الوقت لم يكن أبدا مواتيا للضحك ،( على الأقل منذ 28 يناير )، فاستضحاكنا الثرثار كان أشبه شيء بمن يقهقه على نكتة سمجة، في سراق عزاء.والأوجع ان سرادقات العزاء لم تتوقف قط ، و آخرها، حتى الآن، كانت سرادقات عزاء شهداء “ألتراس الأهلي” ، في مجزرة بور سعيد، مع سقوط كل هؤلاء الشبّان الذين كانوا أبطال المعارك الكبرى ، منذ انطلاقة الثورة ، وحتى مجزرة ” محمد محمود”. كانت مؤامرة الغادرين ، التي انتهت بعشرات الشهداء خنقا ، كفيلة وحدها ، بان تُخاصم شفاهنا البسمات ، حتى نقتص لهم من قاتليهم، وقد أقسمنا أن نفعل ، وحنثنا بقسّمنا ، كما اعتدنا. وكما يليق بثوار أرادوا ألا تخسر ثورتهم وصفها/ تهمتها الأليق :” الثورة الضاحكة ” أو بالأحرى ” المضحوك عليها ” !