"يا خفى الألطاف نجنا مما نخاف"، بهذه الجملة التى جمعت بين التدين والسخرية قاوم المصرى البسيط مدافع الحملة الفرنسية. فى كتابه "بونابرت فى مصر"، يقول المؤرخ البريطانى كريستوفر هيرولد إن نابليون احتل مصر بالمدفع وخرج منها بالنكتة، لقد أطلق على المصريين القذائف فردوا عليه بالنكات البذيئة، أى بقذائف أشد. كانت النكات وسيلة المصريين للانتقام من الجنرال الفرنسى، الذى احتل بلادهم. وفى هذه النكات اتهموه بالعجز الجنسى، فقد أراد بعض الأعيان التقرب منه، فأهدوه ست جوارى حسان، لكنه رفضهن بحجة أنهن بدينات، وأن رائحة الحلبة تفوح منهن، وصرفهن دون أن يمسسهن، لأنه كان يفضل المرأة النحيفة، ذات القوام الرشيق مثل جوزفين، لا السمينة التى فى حجم شجرة الجميز، على عكس الذوق الشرقى للمصريين فى ذلك الوقت، الذى كان يعتبر أن الرشاقة قبح، والنحافة سوء تغذية، والبدانة ترف، وأن شحم المرأة هو سر فتنتها وجاذبيتها الجنسية. انزعج نابليون من سخرية المصريين، فأصدر مرسوما يهدد بمعاقبة كل من يُطلق أو يضحك على النكات التى تسخر منه ومن جنوده، لتكون النكتة لأول مرة فى التاريخ جريمة يعاقب من يرتكبها بالضرب أو بالحبس. وإمعانا فى السخرية من نابليون، ابتكر المصريون "علي كاكا"، وهى شخصية فلكلورية لرجل يلف حول وسطه حزاما تتدلى منه أعضاء جنسية ذكورية كبيرة الحجم، وصنعوا منه تماثيل من الحلوى فى الموالد. لقد صبوا عشرات الألوف من هذا التمثال، وباعوه فى كل مكان ليذكروا نابليون بفشله، وعجزه، وخيبته، أو ربما لكى يصوروا لأنفسهم أنهم أقوى منه ومن مدافعه. وعلى الرغم من هذه السوقية فى مجتمع محافظ، استحوذ "على كاكا" على قلوب المصريين، وحظت الشخصية بشعبية كبيرة، أفقدت نابليون هيبته، وأضاعت احترامه، فتجرأ العامة على جنوده، فذبحوا بعضهم واعتدوا على بعضهم الآخر، وكان أن بدأ العد التنازلى لنهاية الحملة الفرنسية على مصر. لقد أحس المصريون بأن من العار أن يحكمهم شاذ أو عاجز أو رجل لا يفهم فى النساء، فسعوا إلى تحطيم معنوياته بالنكت والقفشات حتى يرحل. اكتشف المصريون أن السخرية هى أقوى أسلحتهم. فالسخرية من الطاغية تشده من عليائه وتنزل به إلى مستوى البشر، فيظهر للناس أن هذا الرجل العظيم المهيب ليس سوى كائن ضعيف، يشعر بالخوف والتوتر والقلق، ويمكن أن يصاب بالإسهال ويطعن فى السن ويفقد ذاكرته ويتبول على نفسه، وهذا ما يخشاه الطاغية على سمعته ومكانته. وقد عرف المصريون السخرية منذ قديم الزمان واتخذوها سلاحا ضد كل القوى التي حاولت استعبادهم، وهو سلاح يبدأ بالنكتة التى اشتهروا بها بين الأمم والشعوب ولا ينتهي بالفن. فى عيد رأس السنة الفرعونية، كانت تعرض مسرحية يتواطأ على السخرية فيها الحاكم والمحكوم، فقد كان حاكم الإقليم الفرعونى يجرى قرعة لاختيار أحد الفلاحين ليمثل دور الحاكم طوال أيام العيد، وكانت المسرحية أو اللعبة تبدأ من ساحة المعبد، وبدلا من تاج الفرعون، يرتدي الفلاح (الحاكم) تاجا من البوص، ويختار حاشيته وحريمه اللاتى كن يقمن بالعزف والترتيل مع عامة الشعب. ولم يستطع من احتل مصر على مر العصور مقاومة النكتة المصرية. الرومان عندما احتلوا مصر حرموا على المحامين المصريين دخول محاكم الإسكندرية، لأنهم كانوا يسخرون من القضاة الرومان ويهزأون من ضعفهم فى تحقيق العدالة، فاستخدموا النكتة والقافية للدفاع عن السجناء السياسيين. وللشاعر الرومانى ثيوكريتوس مقولة شهيرة: "إن المصريين شعب ماكر لاذع القول، روحه مرحة". وعندما جاء الاحتلال العثمانى لمصر كانت السمة الغالبة على الولاة الأتراك الغطرسة والعجرفة، وأعطتهم كر وشهم المستديرة الكبيرة مسحة من الكسل والغباوة، فسخر المصريون من "نفختهم الكاذبة". فى كتابه "عجائب الآثار فى التراجم والأخبار"، كتب الجبرتى يقول: "لقد نكت المصريون على الباشا التركى وحولوه إلى أغنية لحنوها ورددوها: يا باشا يا عين القملة مين قال لك تعمل دى العملة، يا باشا يا عين الصيرة مين قال لك تدبر دى التدبيرة". وجاء ذلك كرد فعل على قسوة الأتراك وتعاملهم الفظ مع المصريين كعبيد. وفى عهد الخديو إسماعيل، أسس الصحفى اليهودى يعقوب صنوع أول جريدة ساخرة فى مصر باسم "أبو نضارة"، وامتلأت الجريدة بمحاورات ساخرة بين شخصيات متنوعة، مثل شيخ البلد وكان يقصد به الخديو إسماعيل، وأبو الغلب وكان يرمز به للفلاح المصرى، أما أبو نضارة فكان هو نفسه. وقد أغلقت الجريدة على الفور، وتم نفى صنوع خارج البلاد. وفى فرنسا غير صنوع اسم جريدته إلى "أبو صفارة" ثم إلى "أبو زمارة" حتى يتحايل على قرار مصادرتها فى مصر. وبعد عزل الخديو إسماعيل، وصف صنوع الخديو توفيق بالواد الأهبل، ووصف مجلس النواب بجمعية الطراطير، ووصف مصر بالبقرة الحلوب، لذلك رسم صورة ساخرة لجنازة الخديو وفى مقدمة المشيعين مجموعة من الثيران. هذا الموروث الثقافى من السخرية السياسية، استمر خلال العصر الحديث. وفى أعقاب هزيمة عام 1967 المروعة، أصبح جيش مصر هدفا للسخرية. وخرجت النكات عن نطاق السيطرة، حتى دعا جمال عبد الناصر الشعب، فى أول خطاب إلى مجلس الأمة بعد النكسة، أن يكف عن السخرية من الجيش، فقد كانت النكات قاسية، موجعة، مؤلمة، كأنما الشعب يسخر من أبناء القوات المسلحة، أى يسخر من أبنائه، أى يسخر من نفسه. كان الشعب يبكى ويضحك على نفسه فى وقت واحد. وفى الأعوام الأخيرة، ظهرت مواقع التواصل الاجتماعى كمنصة جديدة للتعبير الساخر. والفيسبوك يكاد أن يكون الآن هو النافذة الوحيدة التى يمكن للمصريين الكتابة فيها بحرية، بعد أن أصبحت كل وسائل الإعلام فى قبضة أذرع النظام الأمنية. قبل الفيسبوك، كان الثوريون، أو النشطاء السياسيين بتعبير عصرنا، يقومون بكتابة المنشورات وطباعتها فى سرية تامة، ثم يخاطرون بأنفسهم فى محاولة توزيعها بين الناس فى الشارع، ولعل معظمنا يتذكر المشهد الأخير من فيلم "القاهرة 30″، الذى يقوم فيه بطل الفيلم بتوزيع المنشورات فى ميدان القلعة بقذفها فى الهواء، بينما يطلق المخبرون الرصاص عليه. كان توزيع المنشورات من التهم الشائعة التى نسمع عنها كثيرا إلى جانب تهم إثارة الشغب والتحريض على العنف وتكدير السلم العام. اليوم، أى كلمة فى الفيسبوك، سواء كانت جادة أو ساخرة، هى منشور قد يوزع أكثر من تلك المنشورات آلاف المرات، وهذا هو سبب كره النظام لمواقع التواصل الاجتماعى، والدعوات التى تظهر من حين إلى آخر لحجبها أو سن قوانين صارمة تجرم وتعاقب من يسىء استخدامها.
السخرية جزء أصيل من الثقافة المصرية، يستخدمها المصريون للمقاومة وللدفاع عن أنفسهم، ويستخدمونها أيضا كمحاولة للصبر والرضا بالواقع مع الأمل فى تغييره، والمثل الشعبى يقول: "أصبر على جار السو، يا يرحل، يا تجيله مصيبة تشيله". وهكذا تدخل السخرية فى كل تفاصيل حياة المصريين، وربما لهذا يُطلق عليهم أنهم شعب "ابن نكتة". وستظل السخرية سلاح المصريين ضد الحاكم الذى لا يسمح بالمناقشة ولا يحترم حقوق الناس ولا يحقق مطالبهم. إذا كان هناك نظام ديمقراطى، وإعلام حر، وانتخابات نزيهة، وأحزاب حقيقية تعبر عن الشعب، ستضعف السخرية تلقائيا، أما إذا لم يكن، انتشرت السخرية وانفجرت.