المنصورة.. شيدت لتخليد انتصار المصريين على الفرنجة عام 1219م، بأمر من الملك الأيوبي محمد بن عبد الملك الملقب بالعادل.. مدينة العطر التي يعانقها الماء من ثلاث جهات كانت تضم أكبر حدائق الورد في مصر، فكانت تسمى جزيرة الورد، وكان الملك الفرنسي لويس التاسع قد قرر أن يأتي إلى مصر على رأس حملة عسكرية تكونت من 1800سفينة تحمل 80 ألف مقاتل بكامل عدتهم وعتادهم وخيولهم، ونزلوا عند شاطئ دمياط ودارت معركة طاحنة دارت الدائرة فيها على جيش مصر الذي اضطر قائده فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ للانسحاب من دمياط بعد أن تواترت الأنباء بوفاة الملك الصالح نجم الدين أيوب. لم يكن الملك قد توفي بعد فأصدر أوامره بإعدام 50 من أمراء العربان، لأن الهزيمة والانسحاب قد وقعا بسبب انكشافهم عن المدينة، واحتل الصليبيون دمياط دون كبير جهد وحولوا مسجدها الكبير إلى كاتدرائية، وأعلونها مدينة صليبية، وعاصمة لمملكتهم فيما وراء البحار.. وغادر الملك الصالح إلى المنصورة وهو يجود بأنفاسه الأخيرة، ومن هناك دعا داعي الجهاد فاندفع المصريون إلى المنصورة من كل حدب وصوب، وشن المجاهدون حرب عصابات على قوات المحتل، وأوقعوا به خسائر كبيرة في الأرواح، وكان الجنود الذين يقعون في أيدي المجاهدين ينقلون إلى القاهرة عبر النيل، وكان من نتائج هذه الأعمال البطولية أن انتشر الرعب بين جنود الحملة، خاصة بعد أن انتهج المجاهدون طريقة ذبح وقطع رؤوس الجنود وهم نيام؛ فاستدعى الملك شقيقه "ألفونس" فحضر من بتعزيزات وقوات إضافية، وكان القرار بالتحرك إلى القاهرة لقطع رأس الأفعى حسب تعبير "روبرت" الشقيق الثاني للملك لويس. وفي يوم 20 من نوفمبر عام 1249م، غادر الصليبيون دمياط صوب القاهرة، وتوفي الملك الصالح بعد بدء التحرك بثلاثة أيام، ورغم حرص زوجته على كتمان الخبر، إلى أنه تسرب إلى معسكر الأعداء، فتشجع هؤلاء وشنوا هجمة شرسة على معسكر الجيش المصري في "جديلة" وكان به القائد فخر الدين الذي استشهد في هذه المعركة، واضطر الجيش المصري إلى التراجع مجددا نحو المنصورة، وكان بيبرس البندقداري قد اقترح خطة تسمح بدخول الأعداء للمدينة لمحاصرتهم بداخلها وإفنائهم، وقد تم له ذلك.. وكان الجنود ومعهم العربان وأفراد الشعب يغلقون الشوارع بالمتاريس بعد مرور الأعداء؛ ليقطعوا عليهم طريق العودة، ثم بدأ هجوم المصريين شعبا وجيشا بكل ما طالته أيديهم من الأسلحة و المدى والشوم وغيرها، ولم يجد الصليبيون مفرا من هذا الجحيم، سوى أن يلقوا بأنفسهم في النيل؛ فغرق منهم عدد كبير، وقتل "روبرت" أخو الملك وقائد الفرقة الإنجليزية "وليم" في هذه المعركة، وانتقل الهجوم المصري الضاري إلى المعسكر الصليبي على الضفة الأخرى لبحر أشموم، وحوصروا لثمانية أسابيع وعرضوا على المصريين الصلح، ولكن شروطهم رفضت؛ فاضطروا في محاولة يائسة للعودة إلى دمياط، لكن الجيش المصري كان قد أحكم عليهم الطوق فكانت نهايتهم في معركة فارسكور في الخامس من أبريل1250م، ووقع الملك لويس التاسع وكل أمراء حملته في الأسر، وتم نقله إلى دار ابن لقمان بالمنصورة، ويضطر للموافقة على دفع فدية قدرها 400ألف دينار ذهبي-دفع نصفها وتهرب من دفع النصف الآخر- وخرج إلى عكا مهزوما مدحورا..
ويصف المؤرخ الصليبي"ماثيو باريس" هذه الأحداث بقوله: "لقد تقطّع جيش المسيح في مصر إربا إربا، وا أسفاه على نبلاء فرنسا، وفرسان الداوية والاسبتارية وتيوتون القديسة ماري وفرسان القديس لازاروس الذي قضوا هناك على نحو مؤسف". كانت هزيمة الصليبين في تلك المعارك إيذانا بظهور توازنات جديدة للقوى الإقليمية؛ فبدأ حكم المماليك في مصر، واستأثر الأيوبيون بحكم الشام، والأرمن بحكم "كليكيا" بينما حافظ الصليبيون على ملكهم في إنطاكية، وبقي لويس التاسع في عكا على أمل العودة لانتزاع بيت المقدس.. وبينما كان الأرمن والفرنجة يسعون للتحالف لحرب المسلمين، كانت روح العداء تتنامى بين الأيوبيين والمماليك؛ لدرجة أن الناصر يوسف صاحب دمشق، عرض على لويس تسليمه القدس نظير تحالف أيوبي صليبي ضد المماليك؛ لكن لويس الذي ذاق مرارة الهزيمة في المنصورة وفارسكور، وكان المماليك ما زالوا يحتفظون ببعض أمرائه كأسرى- آثر أن يفاوض السلطان عز الدين أيبك لمحاولة الحصول على أي مكاسب.. وبالفعل استطاع لويس تحرير أسراه، والتنازل عن المبلغ المتبقي من الفدية والمقدر بمئتي ألف دينار.
بعد تلك الأحداث لم تحظ المنصورة بالاهتمام الواجب من جانب المماليك، فلم ينقلوا إليها مقر حكمهم الذي كان في بلدة "أشمون طناح" قرب مركز "دكرنس".. لكن الغزاة العثمانيون عندما دخلوا مصر عام1517م، رأوا أن تلك البلدة لا تصلح لتكون مقرا تدار منه شؤون إقليم الدقهلية، نظرا لبعده عن النيل، وصعوبة طرق المواصلات المؤدية إليه، وعدم صلاحيتها لإقامة موظفي الحكومة، ولهذا أصدر سليمان الخادم والي مصر أمرا في سنة 1527م بنقل ديوان الحكم من بلدة أشمون الرمان إلى مدينة المنصورة لتوسطها بين بلاد الإقليم وحسن موقعها على النيل وبذلك أصبحت المنصورة عاصمة إقليم الدقهلية ومقر دواوين الحكومة من تلك السنة إلى يومنا هذا.
في سنة 1871م أنشئ قسم المنصورة، وجعلت المنصورة قاعدة له ثم سمي مركز المنصورة من سنة 1881م ولاتساع دائرة المنصورة وكثرة أعمال الإدارة والضبط فيها أصدرت نظارة الداخلية في سنة 1890 قراراً بإنشاء مأمورية خاصة لبندر المنصورة، وبذلك أصبح البندر منفصلاً عن مركز المنصورة بمأمورية قائمة بذاتها. وقعت في أجوائها معركة المنصورة الجوية في 14 أكتوبر 1973 وتعد هذه المعركة من أهم المعارك الجوية العربية إذ كان لها دور كبير في انتصار مصر في حرب أكتوبر 1973. المنصورة وفارسكور مدينتان مصريتان قدما نموذجا للمقاومة الباسلة في أشد لحظات التاريخ حلكة، ولولا هذا الصمود وتلك البطولات الخالدة التي قدمها ابناء المدينتين والحواضر المحيطة بهما، لكن وجه التاريخ قد تغير عند تلك اللحظة الفارقة.. لكنهما مدينتان موهبتان للنصر، ومنذورتان للظفر، وكسر شوكة الاعداء.. وقد شهدت سماء المنصورة في الرابع عشر من أكتوبر1973، معركة من أشرس معارك الطيران في التاريخ الحديث، وقد لقن فيها طيارو العدو الصهيوني درسا لم ينسوه أبدا، وكان لتلك المعركة الأثر الأكبر في تعزيز نصر السادس من أكتوبر.. إنها مدن التاريخ الظافر والبطولة؛ لذلك لا يجب أن تطويها صفحات النسيان مهما طال الأمد.