زوّدت وزارة الدفاع الروسية مواقعها في إقليم كالينينجراد، أقصى الشمال الغربي للبلاد، بمنظومة صواريخ إسكندرm فائقة الدقة، التي تأني ضمن أفضل وأحدث ما أنتجته التقنية العسكرية الروسية في مجال الصواريخ، والمزوّدة بمنظومة كاملة للإعاقة التشويشيّة، تمكنّها من الاختفاء عن الرادار، وذات القدرة على الإفلات من الصواريخ الاعتراضية. وينتمي إسكندرM إلى الصنف قصير المدى وأُنتج، في الأساس، بمدى يصل إلى 300 ك.م، ثم مرّ بعملية تطوير جعلت مداه يصل إلى 500 ك.م، ويكتسب أهميّته مما يتمتع به من دقّة في الإصابة مع وزن كبير لرأسه الحربي، أي قدرته الإنفجارية، الذي يصل وزنه إلى 700 ك.ج. يشرف إقليم كالينينجراد على الشرق والشمال الأوروبييَن مباشرة، ويحاذي بولندا ولتوانيا ولاتفيا الأعضاء في حلف شمال الأطلسي، دون أن يكون متصّلا بريّا بأراضي الاتحاد الروسي؛ إذ تفصله عن الأخير بيلاروسيا ولتوانيا ولاتفيا، مما يجعله مرتكزا جغرافيا روسيّا يتجاوز غلاف شرق أوروبا، المحيط بروسيا مباشرة، نحو محيط سيطرة الناتو، مقابلا لألمانيا والسويد والدانمرك، وداعما وحيدا للنفوذ الروسي في بحر البلطيق الذي لا تطلّ روسيا على محيطه إلا بمنفذ ضيّق محصور باستونيا وفنلندا يطلّ على خليج فنلندا. وتأتي الخطوة في سياق الصراع الاستراتيجي الطويل بين روسيا من جهة وحلف شمال الأطلسي من جهة أخرى، وبعد أيام من إعلان وزارة الدفاع الأمريكية عن استراتيجيتها "الدفاعية" العسكرية، التي ركزّت فيها على مواجهة روسيا والصين كخطر على البلاد، وتمثّل ردّا خشنا، ومتوازنا في آن واحد، على اقتراب تدشين منظومة "الدرع الصاروخي" الأطلسيّة الأمريكية في بولندا، المنتظَر انتهاء تجهيزها في العام الحالي، والتي سبق أن تخلّت إدارة أوباما عن إجراءات وضعها في في بولندا والتشيك مكتفية بوضعها في رومانيا الأبعد عن والأقل استفزازا لروسيا، وفق محددات الأمن القومي الروسي، لكن الإجراء الأمريكي والأطلسي، حينئذ، شمل أيضا نشر صواريخ باتريوت في بولندا، وهو ما استجابت له روسيا بردّ مقتضب فحواه أن ذلك يعطي لروسيا الحق في نشر صواريخ هجوميّة على حدود الاتحاد الأوروبي، وفي السياق ذاته لا تحمل الخطوة (في ذاتها) جديدا، إذ أعلن الكرملين في عام 2016 النيّة الواضحة لنشر صواريخ إسكندر في كالينينجراد. في ربيع عام 2017، أعلن الناتو أن أقماره الصناعية رصدت اكتمال تعديل مواقع الصواريخ الروسيّة بما يؤهلها لاستقبال صواريخ من نوع إسكندرM، وضمّت صواريخ من منظومة توتشكاO ذات المدى القصير الذي يبلغ 120 ك.م، وتلى الإعلان اعتراض ألمانيا، القوة الأكبر في الاتحاد الأوروبي، في إطار العلاقات الثنائية المتوتّرة بالفعل، حينها قال وزير الخارجية الروسي، إن الإجراءات الروسيّة رد فعل على خطوات الناتو بخصوص الدرع الصاروخي، وأضاف مسؤول العلاقات مع أوروبا بالوزارة، أن روسيا قلقة، أيضا، بشأن ما يشكّله الناتو من "كتائب دورية" في بولندا واستونيا ولاتفيا وليتوانيا، ما يعتبَر أنشطة عسكرية تهدد الأمن القومي الروسي. في صيف العام ذات، أعلنت وزارة الدفاع الروسية إنشاء لواءين مقاتلين كاملين لمنظومة اسكندرM للصواريخ المجنّحة، يشملان نسقا كاملا للنقل والإعداد والإطلاق والتوجيه، بالإضافة إلى خطوة أخطر وهي إجراء تدريب حي للرماية بتلك الصواريخ ومناورة عسكرية مكتملة شملت إطلاقها في طاجيكستان، وكانت المرة الأولى لإطلاق واستخدام إسكندرM خارج روسيا، ورغم بعد طاجيكستان جغرافيا عن قلب منطقة نفوذ حلف شمال الأطلسي، جاءت الرسالة واضحة ومتّسقة (من ناحية أخرى) مع منح روسيا منظومة إسكندر ل"دولة في شمال إفريقيا"، لم تسمّها وزارة الدفاع الروسية وقتئذ، ومن هنا، كانت الرسالة موجّهة بصفة أعلى إلى الولاياتالمتحدة، لاسيما مع إضافة الموقع الجغرافي لطاجيكستان لمجمل الموقف، وهو المجاور لأفغانستان وباكستان وبحر قزوين. تمثّل الخطوة الروسية ردّا على استراتيجية البنتاجون المعلَنة حديثا، والتي يمكن قراءتها باعتبارها توجّه أمريكي نحو الحضور والفاعلية، للخصم من قوة روسيا والصين وأمنهما القومي، في شرق أوروبا وجنوب آسيا، عوضا عن التركيز في الشرق الأوسط، الذي يتآكل فيه النفوذ الأمريكي تدريجيّا لصالح روسيا وحلفائها الإقليميين هناك، مع بقاء يد حديدية روسية من النفوذ محيطة بأوكرانيا، مما كفل شلّ التحركات الأمريكية فيها وإفشال جميع خطواتها المشتركة مع الأوروبيين، ويؤدي كل ما سبق إلى أهمية إتمام مشروع الدرع الصاروخي على الحدود الغربيةلروسيا، في بولندا، بالنسبة للولايات المتحدة، باعتباره ملفّا أسهل في التعامل معه حركيّا، في ظل الموقف البولندي التابع واحتياج أمريكا لأرضية مشتركة جديدة، وواقعية، تجمعها بشركائها الأوروبيين، في ظل انقسام كبير وبالغ الضرر بخصوص إيران.