والرئيس يتأهب لدخول الانتخابات الرئاسية لفترة ثانية، تظهر له مشكلة لم تكن فى الحسبان، فوسائل الإعلام تنشر معلومات عن تحرشه بإحدى الموظفات الصغيرات فى البيت الأبيض، مما يهدد بإجهاض حملته الإنتخابية والإضرار بشعبيته، خاصة وأن مدة أقل من أسبوعين فقط تفصله عن يوم الاقتراع، وهى فترة لا تكفى لإجراء تحقيقات كاملة لمعرفة الحقيقة، وإثبات البراءة أمام الناخب الأمريكى الحساس تجاه القضايا الأخلاقية. فكيف يستطيع فريق الرئيس من المساعدين إبعاد هذه الفضيحة عن الرجل لكى ينجح فى الانتخابات؟. وبعد اجتماعات مكثفة، استعان المساعدون بأحد الخبراء المتخصصين فى مثل تلك المواقف الصعبة، والذى لا يستعصى عليه حل أى مشكلة على سطح الأرض، وقد نصحهم الخبير الماكر قائلا: الحل سهل، وهو أن نشعل حربا. ولما سُئل: لماذا الحرب ومع من؟ قال الخبير: ليس مهما مع أى طرف، لأنها لن تكون حربا حقيقية، ويكفى أن يخرج الرئيس فى مؤتمر صحفى ويتحدث عن تهديدات إرهابية ضد الولاياتالمتحدة مصدرها دولة ما، ويؤكد أنه لن يقوم بأى عمليات عسكرية ضد هذه الدولة، وبعدها يتلقف الإعلام الطعم، فيشعل الحديث عن تكهنات بحرب مزمعة مع تلك الدولة، وهكذا تتحول الحرب إلى حقيقة، وينشغل الرأى العام بحكاية الحرب الوشيكة، وتنصرف الأنظار عن فضائح الرئيس الجنسية التى قد تحول دون فوزه فى الانتخابات.
واستعان الخبير الماكر بمنتج سينمائى شهير لتنفيذ عملية الخداع المتقنة، ووقع الاختيار على ألبانيا لإعلان الحرب ضدها، لأنها دولة بعيدة ومجهولة لدى معظم الشعب، وقد يكون أيضا لأنها دولة مسلمة ويسهل على الإعلام اتهامها بأى شىء. ويستخدم المنتج كل المؤثرات السينمائية الخاصة لصناعة تلك الحرب الوهمية فى ألبانيا. وتبث نشرات الأخبار مقطع تليفزيونى لفتاة ألبانية تحاول النجاة من الإرهابيين وهى تحمل قطة صغيرة، والفتاة ممثلة أمريكية مغمورة، والتقنيات الحديثة هى التى جعلتها تبدو وكأنها تركض بين النيران والمبانى المهدمة فى ألبانيا، بينما جرى التصوير داخل أحد استوديوهات هوليوود. وعندما تكتشف وكالة الاستخبارات الخدعة، يخترع المنتج قصة أخرى لجندى أمريكى عالق خلف خطوط العدو، وأن الرئيس مصمم على استعادته، وهنا يستعينون بمجرم سجين ليكون هو الجندى المنشود، إلا أن هذا المجرم يُقتل أثناء محاولته اغتصاب إحدى الفتيات، ويستغل المنتج مقتل المجرم ويجعل منه بطلا قد استشهد فى سبيل وطنه، ويعيدون جثمانه ملفوفا بالعلم الأمريكى، وتقام له جنازة الأبطال، وترتفع شعبية الرئيس إلى عنان السماء.
تلك كانت قصة الفيلم الكوميدى الأمريكى "هز الكلب" Wag the Dog، الذى أنتج فى عام 1997، من تمثيل النجمين الأمريكيين الشهيرين روبرت دى نيرو (فى دور الخبير الماكر) وداستين هوفمان (فى دور المنتج السينمائى)، ومن إخراج المخرج الأمريكى الكبير بارى ليفنسون، الحائز على جائزة أوسكار أفضل مخرج عن فيلم "رجل المطر" عام 1988. والفيلم مقتبس عن رواية بعنوان "بطل أمريكى" صدرت فى عام 1993 للكاتب والصحفى لارى بينهارت، وهى رواية سياسية ساخرة تقوم على نظرية المؤامرة، وتكهنت بأن حرب "عاصفة الصحراء" ما هى إلا أكذوبة لإعادة انتخاب الرئيس جورج بوش الأب.
يبدأ الفيلم بصوت المعلق يلقى سؤالا: لماذا يهز الكلب ذيله؟ ويأتى الجواب: لأن الكلب أذكى من الذيل، ولو كان الذيل أذكى لكان هو الذى هز الكلب. ولن نفهم مغزى هذه العبارة العجيبة المعاكسة لطبائع الأشياء إلا عند نهاية الفيلم، حين ندرك أن الرئيس هنا قد اختلق ذيلا، يتمثل فى الحرب، ليهز به الكلب، وهو المجتمع ومؤسسات الدولة، لكى يُشغل الجميع عن الحقيقة ويوجه الرأى العام فى اتجاه لا يؤثر على مصالحه الخاصة.
ويلقى الفيلم الضوء على ما تقوم به وسائل الدعاية السياسية أو البروباجندا من فبركة للواقع وتزييفه، حين تصبح الصورة التلفزيونية هى الواقع من خلال تأثيرها المذهل على أذهان المشاهدين، الذين يساقون إلى مصائر لا يدركونها بواسطة حلقة ضيقة من الرجال تمسك بالسلطة.
وأصل كلمة بروباجندا يرجع إلى عام 1622، عندما أسس بابا الفاتيكان منظمة دينية باسم "جمعية نشر الإيمان"The Congregation for the Propagation of the Faith، والتى كانت تهدف الى نشر المسيحية، ولهذا فإن كلمة بروباجندا فى بداياتها كانت تعنى مجرد توزيع المعلومات الدينية. ثم تحولت البروباجندا إلى المعنى الحالى مع ظهور فكرة توزيع المنشورات والملصقات والصحف لتوجيه الرأى العام، وكان لكل حكومة مكتب خاص للبروباجندا، وكانت هذه المكاتب تعمل بصورة علنية ومكشوفة للجميع ومعلومة الهدف.
ثم بدأت الشعوب تأخذ موقفا معاديا من البروباجندا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، عندما تكشفت كثير من الحقائق واتضح أن جانبى الحرب، المحور والحلفاء، كانوا يضللون الرأي العام بأكاذيب ومعلومات مغلوطة، مما دفع الدول إلى تغيير اسم وزراة الدعاية (البروباجندا) إلى وزارة الإعلام، ثم إلى إلغائها تماما، ومنذ هذه اللحظة أصبحت كلمة بروباجندا تحمل المعنى السلبى، خاصة بعد تجربة وزارة الدعاية النازية، والتى تفوقت على الجميع وجعلت من البروباجندا فنا وليس مجرد مهنة أو وظيفة بفضل وزيرها جوزيف جوبلز، صاحب الشعار الشهير: "أكذب ثم أكذب حتى يصدقك الناس".
واليوم تعود مثل هذه البروباجندا وبيدها أدوات أكثر تطورا من أدوات جوبلز فى الثلاثينات والأربعينات، حتى أصبحت الشكوك تراود المتابع للفضائيات حول مدى صحة ما يراه من أخبار، أو ما يشاهده من صور أو مقاطع تلفزيونية مباشرة. والمحزن هنا ليس فى الكذب والتزييف الإعلامى فقط، وإنما فى استغلال معاناة الناس فى الحروب لصناعة دعاية سياسية يستغلها طرف ضد الآخر، وبشكل يجعل الحقائق تختلط بالمواد المزيفة، ولا عزاء لكل هؤلاء المستضعفين الذين يتم استغلال معاناتهم بأبشع الطرق.
ملحوظة: ما دفعنى إلى الكتابة اليوم عن هذا الفيلم، الذى شاهدته منذ حوالى عشرين عاما، هو الحرب الكلامية التى يشنها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب ضد نظام بيونج يانج من حين إلى آخر، والتى وصلت إلى حد التهديد بالدمار الشامل لكوريا الشمالية.