(1) حجرة نومي تطل على شرفة صغيرة، يغمرها الضوء منذ اللحظات الأولى لشروق الشمس، وهو ما يسمح لى بمراقبة ما يدور بها منذ الصباح الباكر من خلال الزجاج، في حوالى الثامنة كل صباح، تستضيف الشرفة عدة عصافير، ميزت واحدا منهم بطوق أبيض فى عنقه الصغير، كان يقف على سياج شرفتى ويهز رأسه الصغيرة يمينا وشمالا، تخيلته يلقى علي السلام، خيال ساذج لكننى أحب أن اتمادى فيه أحيانا، من خلف الزجاج وقفت أراقبه دون أن أحدث ضجيجا أو أتحرك خوفا من أن يطير بعيدا ويحرمنى من تغريداته التى تسعدني. العصفور ليس الكائن الوحيد الذى تزعجه الحركة المفاجئة ، بل سائرالكائنات وكذلك الإنسان ، الذى يدرك بحدسه الحركات المتكررة والمعتادة ويتعامل معها بارتياح، لكن مع الأفعال والحركات المفاجئة .غيرالمعتادة تختلف ردود أفعال البشر . فى أفلام الرعب ، يتعرض أبطال العمل لمواقف غير متوقعة ومفاجآت غير سارة فى أجواء غموض ورهبة وعادة يكون الأمر ليلا لأن الظلام مخيف فى ذاته. الخوف من المشاعر التى يُسهل التماهى معها، تنتقل بين المشاهدين بالعدوى مثل الضحك. فى جيلى، كنت تجد فى بعض الأسر أخت أو أخ يمارس السيطرة على أخوانه الأصغر منه بإخافتهم،بسرد قصة مرعبة ليلا للصغير قبل النوم،كان الأمر بالنسبة للكبير مزحة وبالنسبة للصغير كابوس مخيف يرافقه طيلة ليلته.
(2) هل يتوقف الإنسان عن ممارسة لعبة الترهيب والتخويف حين يشب عن الطوق ويغادر مرحلة الطفولة ؟، أم أنه يظل يمارسها ولكن هذه المرة بقصدية أكبر. رجال الحكم والسلطة يدركون أن للخوف تأثير السحرعلى العامة، وأنه ينتشر كالوباء بينهم، وهو ما يميزه عن غيره من أدوات السيطرة والتى يكون فيها الأثر محدود على شخص أو دائرة ضيقة. الخوف يجعل الناس أسهل فى القياد ، يطيعون الأوامر ويقلدون بعضهم البعض.العقل الجمعى يسيطر، لأن الفزع يعوق التفكير الفردى عادة، فى حالات الفزع والحروب تحدث أبشع الجرائم الإنسانية :القتل الجماعى والتطهير العرقى، لوتم توجيه العقل الجمعى صوب عرق أو أقلية على اعتبار أنها مصدر خطر، يتم محاصرتها من قبل الجموع وقد يصل الأمر إلى قتل بعض أفرادها أو جميعهم ، كما حدث فى رواندا وألمانيا النازية وصربيا . (3) التسلط على الجموع صناعة ضخمة، لها أدوات تستخدم ومناهج تدرس، ومن بينها القوى الناعمة المتمثلة فى المنتجات الإعلامية والفنية والثقافية لتوجيه الرأى العام ، القوى الخشنة معروفة بالطبع والأنظمة الاستبدادية تستخدمها بتوسع. لكن التأثير والتسلط على الناس ليس غاية النظم الاستبدادية فقط ، لكن كل أنظمة الحكم ، كما يمارسها الأفراد مع بعضهم البعض،وهناك سبب منطقى وراء محاولات التأثير والتسلط من جانب أنظمة الحكم ، وهو أن ينجحوا فى قيادة الجموع طبقا لرؤية النظام حتى لا تتشتت الجموع ويحدث تشرذم ويسهل اختراقها ،أدوات التأثير بمثابة عصا الراعى التى يوجه بها قطيع أغنامه حتى لايشرد حمل هنا ولاتضيع نعجة هناك. لا يمكن أن تقود شعبا، مكون من ملايين الأفراد المختلفين شكلا وموضوعا دون أن تغرس فى وجدانهم قيم بعينها عليهم جميعا احترامها والالتزام بها والدفاع عنها ، وأن يقر فى نفوسهم أن من يخرج عليها يعد مارق وخارج النسق الاجتماعى، وعلي من يقود شعبا أن يجسد له الأعداء، ويحدد له الحلفاء والأصدقاء ايضا . (4) فى مصر، نعيش حالة واضحة من حالات التسلط ومحاولة التأثير على المجتمع وبوتقته، لكن العجيب أنها رغم قوة الضغط لم تؤد إلى تشكيل المجتمع وفق منظومة واحدة ، لكن حدث العكس، فنحن نعيش حالة من الاحتراب الشعبى والاستقطاب الحاد ، لماذا ؟ أعتقد أن الأمر يعود إلى القائمين علي الأمر، لم يضعوا منظومة قيم وتوجهات بديلة تملأ الفراغ الذى نتج عن التحقير الممنهج لثورة يناير وقيمها التى رفعتها كشعار، فلم يتم تقديم قيم للتغيير بديلة عن تلك التى تم تشويهها. وحتى هذه اللحظة لم يقدم النظام الحاكم رؤية واضحة للشعب عن أعداء الدولة المصرية فى الخارج ولم يتم تسميتهم ومعرفة دوافعهم وكيفية التعامل معهم، ونفس الشىء بالنسبة للحلفاء، ليس لدينا حلفاء دائمين، بل يتم التعامل مع الدول الحليفة والصديقة بالقطعة، الدولة التى تساندنا وتدعمنا هى حليفتنا وتستحق المدح والثناء ،لكن لو أختلفنا معها أو توقفت لسبب أو آخر عن دعمنا، تصبح مثار سخرية ونقد لاذع وعداء سافر وخصومة فاجرة،وهذا يؤثر على مصداقية النظام فى الداخل والخارج. (5) أنا لا أملك أدوات تغير مفهوم التأثير عند أولى الأمر فى مصر ونظامها الحاكم، ولكن ما استطيعه هو الحفاظ على مستوى أدائى فى الحياة وتنميته ، رغم هذا الركام من التفاهات التى تحيط بنا بهدف تشتيت وعينا واحباط معنوياتنا، وليس لدى نصيحة أقدمها للقارىء لينقذ صحته العقلية والنفسية ، لكن اعرض عليه أسلوب أطبقه على نفسى، وهو حرصى على الانتقاء: ما أشاهده ، وأسمعه وأقرأه ..حتى من أتحدث إليه ومعه. وأحاول جاهدة أن اربط بين الأمور، فلسنا بمعزل عن العالم وأنا أستريح لنظرية تأثير الفراشة.. أسير وفق النصيحة التى تقول :كن نفسك ولا تسمح لأحد أن يتلاعب بك،لأنه سيتخلص منك بعد أن تنتهي لعبته ،حين تحاصر أو يبدو لك الأمر مستحيل..أنظر إلى السماء فهناك رب يرعاك، ورفرف بأجنحة الخيال وطير بعيدا مثل عصفور شرفتى الذى أنتظر تغريدته كل صباح. [email protected]