يقولون إنه لا يوجد أقوى من (الحب) سوى (الخوف)، فهما الطاقتان الوحيدتان القادرتان على إخضاع الفرد وجعله يصدق كل شىء، وقديمًا قالوا: (حبك الشىء يعمى ويصم).. حديث الحب حديث ذو شجون شجينة.. وهو في إحدى طاقاته الخاضعة أخرج صاحبنا (قيس) ليلاً في الظلام يحدث نفسه.. وأحيانًا كان يغمى عليه عامدًا.. لعل خيال حبيبته يأتى لزيارة خياله فيختليان في الخيال.. والرجل أبى إلا أن يسجل لنا تجربته (السخينة) في أبيات عامرة بالدلالات أخرج من بين البيوت لعلى ** أحدث عنها النفس بالليل خاليا.. وإني لأستغشى وما بى نعسة ** لعل خيالاً منها يلقى خياليا.. إلا أن حقيقة الحقائق في النفس الإنسانية هي أن (الخوف) أقوى من (الحب).. والخوف كما يقولون كامن في عمق الإنسان سواء كان فردًا.. أو جماعة.. (ميشيل فوكو) المفكر الفرنسى الشهير.. يقول (إن كل نظام سياسي يمتلك مكونات تدبير الخوف والرعب، وهى مكونات مهمة بالنسبة لرسوخ سلطته).. وقال أيضًا (إن الخوف يكون حيث تكون هناك إرادة سيطرة واستحواذ، وهو بذلك يتصل بعلاقات القوة..) كل الناس لديهم درجة ما من درجات الخوف.. الخوف من المجهول.. الخوف من الفشل.. وبزيادة الخوف تتناقص صفات إنسانية رائعة.. مثل الجرأة.. الإقدام.. الحب.. ويتحول الخوف إلى ثقافة في المجتمع عندما تتلاقى جملة عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية.. وينتشر الخوف وفقًا لذلك رأسيًا وأفقيًا, حتى يصبح مكونًا أساسيًا من مكونات الحياة.. على أن أخطر أنواع الخوف هو (الخوف السياسى).. الخوف من سلطة الاستبداد واستبداد السلطة.. الخوف من البطش والإقصاء والملاحقة.. حيث يغدو الفرد إثر ذلك فاقدًا للكرامة والشخصية.. فلا يشعر إلا بالخواء والخيبة والظلام.. وفي هذه الأجواء المعتمة يتناسل الوشاة والمخبرون بكثرة.. ويتحول الحاكم إلى (أسير) لإرادة التسلط والاستبداد التي يظن أنها تحميه.. وذهبوا في تفسير ذلك إلى أن قوة الحاكم المستبد ما هي إلا (نتاج ضعفه) وشهواته وخيبته الكبيرة ورغباته الحقيرة في الهيمنة والسيطرة.. انتشار الخوف كثقافة وفعل يؤدى تلقائيًا إلى ضعف (ثقافة) الحرية والحق والنزاهة.. وينعكس ذلك على أهم ما تقوم به المجتمعات والشعوب وهو (الأخلاق).. الخاسر الأكبر من انتشار ثقافة الخوف هو الأخلاق.. وخسارتها تكون ذات أثر بالغ ومروع وخطير على قوام المجتمع كله.. و(شوقى) في بيته الشهير عن ارتباط الأخلاق ببقاء الأمم.. كان موفقًا للغاية في ربطه بينهما.. (إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ** فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا).. والارتباط التام بين الدين والأخلاق. أشهر وأبين من أن يدلل عليه بالأقوال والكلمات.. والخالق العظيم وصف خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم بأنه (على خلق عظيم).. ليس مجرد خلق عادى بل عظيم.. وهو الذي قال من مجامع الكلم (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، و(المقولة الذهبية) لابن القيم في ذلك شديدة الدلالة والقوة والوضوح، (إنما الدين الخلق.. فمن زاد عنك في الخلق زاد عنك في الدين، ومن نقص عنك في الخلق نقص عنك في الدين).. ارتباط الدين بالأخلاق بقوة المجتمع.. قد يزعج أصدقاءنا ذوى الحساسية الحادة والمزمنة من حضور الدين في المجال العام.. وإزعاجهم قد (يتفرفط) قليلاً إذا ربطت بين قوة الأخلاق وضعف الخوف.. وإذا تقدمت أكثر وتحدثت عن أخطر أنواع (الخوف ).. (الخوف السياسي) كما ذكرنا أولاً.. تكون إذن قد ربطت بين أشياء لا يمكن الربط بينها فى (سليقتهم). ذلك أن (سليقتهم) تستنكف وتأنف وتتأفف من ربط (الدين) ب(الأخلاق) ب(السياسة) ب(المجتمع).. وقد تنكر العين ضوء الشمس من رمد.. وينكر الفم طعم الماء من سقم.. لكنه في نهاية الأمر لن يصح إلا الصحيح.. وهو أن الدين لا يمنح الأخلاق مددًا ودفقًا وثراء فقط.. ولكن.. وهذا هو الأهم يمنحها عمقًا وصلابة وتماسكًا وثباتًا.. ولا أستطيع إلا أن أذكر ذلك الدعاء البالغ المعنى لأحد الصالحين (اللهم أسألك الإيمان بحفظك إيمانًا يسكن به قلبي من هم الرزق وخوف الخلق).. منظومة الأخلاق في الإسلام حدث عنها ما وسعك الحديث.. ولو كان جيل السبعينيات اهتم فقط بقصة الأخلاق وتأسيسها دينيًا في وعى المجتمع.. لما كان حالنا هو هذا الحال.. ولو كان (الرجال العظام) حين خرجوا من سجون المرحوم (جمال عبد الناصر حسين) وسجون المرحوم (أنور محمد السادات) وقد هالها ما رأت من حال المجتمع.. قد اهتمت بفكرة (التأسيس الدينى للأخلاق).. لما كان حالنا هو هذا الحال.. والمهتمون بتاريخ الأربعين عامًا التي مضت (1975-2014م)، قد لا يستطيعون التسامح بالقدر الكافى مع هذا الجيل الفريد..! جيل السبعينيات وسيكون لديهم أسئلة كثيرة.. عن هذا الذي حدث وانتهى إلى ما حدث.. وقديمًا قالوا (معرفة العلل إلهام). ...... (ناعومى وولف) كاتبة أمريكية ومؤلفة كتاب (نهاية أمريكا).. وذات حضور ناشط في المجال السياسي والاجتماعى.. لها دراسة ثرية عن (تصنيع الخوف) وتزايد مساحات تأثير هذه الصناعة الرديئة في المجتمعات.. وخلصت فيها إلى ما كان قد ذكره (فوكو) عن أن موضوع (الخوف السياسى) لم يعد مقتصرًا على الحكومات (الاستبدادية) التقليدية.. بل يحدث من جميع الحكومات حتى الديمقراطية منها! تقول: (لا يمكن للطغاة نشر الخوف في صفوف الجماهير دون تجسيد هذا الخوف في صورة أعداء داخليين وخارجيين، عندما يخاف الناس فإنهم يكونون أكثر استعدادًا لقبول إجراءات تنتقص من (حرياتهم الشخصية)، بل حتى من مقومات (حياتهم الأساسية)، ففي الوقت الذي كان (يلتسن) يقصف فيه البرلمان بالدبابات كان يمرر القرارات الاقتصادية التي أفقرت الشعب الروسي وأدت إلى إفلاسه، وفعل (بينوشيه) الشيء ذاته، وهو يعلن حربه على الشيوعية، بل إن قانون (الباتريوت) الأمريكي المشبوه الذي سلب الأمريكيين حرياتهم الشخصية، تم تمريره في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتحديدًا في 26 أكتوبر تحت مبرر الاستعداد (للحرب على الإرهاب)، لينكولن نفسه فرض الأحكام العرفية أثناء الحرب الأهلية.. حريق الرايخ ستاج في 27 فبراير 1933 الذي تزامن مع إعلان الحرب ضد الشيوعية، تم اتخاذه كذريعة لقمع الشيوعيين الألمان والحزب الشيوعي الألماني. إنها الخطة القديمة الجديدة (خلق تهديد مرعب وغير مفهوم بشكل كبير)، خطر الإرهاب - المؤامرات الخارجية.. تذكر دائمًا الحقيقة السابقة: (الناس لديهم الاستعداد للتضحية بقدر كبير من حريتهم إذا شعروا أنهم في خطر حقيقي، بل الأنكى هو حجم استعدادهم لتقبل الممارسات الدموية للسلطة ما دامت تتم في حق غيرهم).. وضع ألف خط تحت "تتم في حق غيرهم".. تحدثت أيضًا عن (القمع خارج دائرة القانون) جميع الأنظمة الاستبدادية لديها شبكة سرية من السجون تمارس من خلالها أنشطة غير مشروعة، أشهرها التعذيب لأجل انتزاع المعلومات، وهو ما يفضي كثيرًا إلى القتل وأحيانًا الإعدام الجماعي، كما حدث في تشيلي وسوريا مؤخرًا، وأحيانًا اغتصاب النساء الذي اشتهرت به الديكتاتورية العسكرية في الأرجنتين. ويخبرنا تاريخ الأنظمة الديكتاتورية أنها لا تكتفي بنشر الخوف عبر الأجهزة الأمنية الرسمية والسرية، لكنها غالبًا ما تشكل مجموعات شبه عسكرية لترويع مواطنيها أو (تدعم أو تتغاضى) عن نشاط بعض هذه المجموعات الموجودة سلفًا.. تشترك هذه الأنظمة أيضًا في إنشائها جهازًا للشرطة السرية.. حتى في الولاياتالمتحدة (نيويورك تايمز) تحدثت لأول مرة عن برنامج أمريكي للتجسس على هواتف المواطنين، وهي المعلومات التي لم تعد قابلة للتشكيك بعد فضائح التنصت والرقابة التي تورطت فيها المخابرات الأمريكية بحق مواطنيها ومواطني دول العالم ورؤسائها حتى الحليفة للولايات المتحدة، والتي كشفت عنها وثائق إدوارد سنودن. الأخ الكبير يراقبك.. نبوءة (جورج أوريل) في روايته الشهيرة التي تحمل نفس الاسم.. تذكر أن الناس مولعون دومًا بنسج الأساطير حول قدرات ونشاطات أجهزة الأمن السرية.. أما عن الأسباب فهي جاهزة دومًا وتتعلق بدواعي الأمن القومي والحفاظ على سلامة المواطنين. السيطرة على المؤسسات الدينية والأحزاب والجماعات.. مهمة جدًا في هذا السيناريو. قد تكون في وقت ما في حاجة لمن يدعو الناس إلى (السلام)، باعتباره فضيلة كبرى وفي وقت آخر قد تكون (الحرب) هي الفضيلة.. لا أحد بإمكانه أن ينشر الخوف لدى الجماهير كرجال الدين، رغم كل شيء. في (جمهوريات الخوف) ربما تجد أغلب الجماعات والأحزاب مخترقة من قبل السلطة، حتى تلك التي تعمل في شؤون البيئة ورعاية الحيوان.. إذا جئت إلى الجمعيات الحقوقية والجمعيات المناهضة للحرب، وغير ذلك من المؤسسات تصبح الأمور أكثر خطورة، مهما كانت مساحة الحرية يجب أن يشعر الجميع أن الأمور تحت السيطرة. تحدثت أيضًا عن مشهد شهير ويحدث كثيرًا.. وهو استهداف الرموز من فنانين وأكاديميين وصحفيين ورؤساء أحزاب وجماعات وعلماء دين، بما يجعل الناس يشعرون أن الجميع مهددون.. وأنه لا سقف (للسلطة) في الحفاظ على نفسها. حدثتنا أيضًا عن تجربة شهدتها الجامعات في مصر في الخمسينيات والستينيات.. وهى إعادة هيكلة المؤسسات التعليمية ومؤسسات الخدمة المدنية بإصدار قوانين تتوافق مع توجهات السلطة، حتى يشعر الجميع أنهم يدينون إلى السلطة أكثر من أي شيء آخر، لأنها تملك إبقاءهم في مناصبهم أو ترقيتهم أو استبعادهم بشكل كامل أو حتى إيداعهم في السجون.
تقول أيضًا: (لا يمكن للدولة أن تسيطر على الناس بحق دون أن تحكم السيطرة على ما يلقى في عقولهم الجميع فعل ذلك). (الحقيقة) هي العدو الأول.. لا حصانة لأحد.. فالجميع مستهدف.. وتحت دعوى مقتضيات الأمن القومي أو حتى تحت دعوى ضمان حرية الصحافة.. المهم هو السيطرة على ما يقدم للناس، لا مانع من مساحة لرأى معارض بشرط أن يكون مستأنسًا وتحت السيطرة. تقول أيضًا: (لا يمكن أن يتعاطف الناس مع خائن أو عميل ضد بلده، المهم أن تتسع تهم الخيانة والتجسس لتصبح فضفاضة إلى أقصى قدر ممكن)، كان ستالين يلقب معارضيه دومًا ب(أعداء الشعب)، بل إن الولاياتالمتحدة في عام 2006م، ومع إقرار قانون اللجان العسكرية، صار من حق الإدارة الأمريكية توجيه اتهام (مقاتل عدو) إلى أي من مواطنيها.. تهم الخيانة – العمالة – التجسس – التخابر، يجب أن تلاحق الجميع.. من المعارضين السياسيين إلى النشطاء المزعجين عبر الإنترنت. وأخيرًا ما يعرف ب(حالة الطوارئ) أو (حالة الحرب) التي أصبحت ستارًا تتخذه الحكومات لتمرير أي إجراءات.. كما يمكن أن تستمر حالة الطوارئ هذه شهورًا أو سنوات وربما عقودًا أحيانًا.. انتهى حديث ناعومى وولف.. وهو في الحقيقة ليس فيه ما يسر الخاطر.. ولا تعليق لى سوى بيت رهين المحبسين (أبو العلاء المعرى): تلوا باطلاً وجلوا صارمًا ** وقالوا صدقنا قلنا نعم.. و(نعم) هنا ليست ثلاثة حروف في لفظ.. وليست موقفًا مفرطًا في الواقعية الخنوعة.. نعم هنا قد تكون ذل الدهر كله.. جيلاً من بعد جيل..