كلمة فوبيا هي كلمة يونانية من phobosالتي تعني الخوف أو الفزع، وكأغلب المصطلحات الحديثة الطبية والعلمية التي استخدمت الجذور اليونانية، أصبح هذا الجذر اللغوي يعبر عن حالة تصيب صاحبها بالارتباك الشديد تجاه أمر ما، فمثلا كليستروفوبيا تعني الفزع من الأماكن المغلقة وأيضا أكروفوبيا تعني الفزع من الماء، وحديثا ظهر مصطلح الإسلاموفوبيا والذي يشير لنوع من الخوف والفزع من كل ماله علاقة بالمسلمين والإسلام وغير ذلك من عشرات المصطلحات. والفوبيا ليست دائما حالة مرضية، بل أحيانا تكون فطرية وطبيعية إذا كان ارتباك الإنسان لسبب طبيعي، وأحيانا إذا اقترنت بأمر ليس من الطبيعي أن تقترن به تكون حالة مرضية، فليس من الطبيعي مثلا أن يفزع الإنسان لمجرد لمسه للماء أو وضع رجليه في حمام سباحة، ففي هذا الحالة تكون الفوبيا مرضية تحتاج لعلاج نفسي ومعنوي ومعالجات آثار خبرات سابقة قد تكون أدت لهذه الحالة. في السنوات الأخيرة عموما وفي الأيام الأخيرة خصوصا، لوحظ عند بعض الناس نوع جديد من الفوبيا، فهم يصابون بالارتباك الشديد من أي توجه أخلاقي من شخص أو أشخاص محيطين بهم، فبمجرد أن يسمعوا شخصا يتحدث عن أي تصور أخلاقي أو ينتقد أي مظهر غير أخلاقي، تتغير معالم وجوههم ويتهافتون بسرعة عجيبة لإطلاق كل الحيل الدفاعية والهجومية وربما يصابون بالاختناق وضيق التنفس، وهذا ما حدث من هجوم على كل مواطن انتقد مسلسلا أو إعلانا رأى فيه ما يتنافى مع منظومته القيمية أو الأخلاقية. في البداية، لست هنا بصدد مناقشة أمر بديهي يعرفه الناس منذ بداية تكوين التجمعات البشرية في العصور الحجرية وهو أن الفن «قوة خيالية أوجدها الناس في المقام الأول لراحة نفوسهم ورسم واقعهم وبناء مجتمعاتهم»، ولكنني مضطر وبشكل سريع أن أشير إلى أن كلمة «وصف الواقع» التي نسمعها كثيرا هذه الأيام هي كلمة حق غالبا ما يراد بها باطل، لأن كلمة «الواقع» كلمة شاملة واسعة جدا، فيقول الفلاسفة إن كل ما يمكن للعقل أن يتصوره هو ممكن وله أصل في الواقع. ومن هذا المنطق، فالفن يصف الواقع الذي يريد وصفه لأن كل ما يمكن وصفه هو واقع حقيقة، فمنذ آلاف السنين وكل الواقع هو واقع، هناك منحلون وهناك متحضرون، هناك أسر مفككة وأسر مترابطة، ومنذ آلاف السنين وهناك مناطق عشوائية وهناك مناطق أكثر تنظيما، لم يغب عن الدنيا أشخاص منحرفون قتلوا أو سرقوا أو حرقوا أو كانت ثقافتهم السب والشتم، ولم يغب عن الدنيا أناس طبيعيون بفطرة سليمة. الفن فعلا هو مرآة تعكس ما يتصوره العقل عن الواقع فيقدم للبشر واقعا حقيقيا، ولكنه في نفس الوقت يعكس هذا الواقع حتى يصبح واقعا أشد قوة وصورة راسخة في الذهن، لذلك فالعقلاء يدركون جيدا كيف أصبح الفن «الذي يصف الواقع» أداة تخلق واقعا جديدا فتهدم دولا وتقيم حروبا وتسقط مجتمعات. حقيقة الأمر هنا يا سادة أن القضية ليست قضية دور الفن، وهؤلاء لم يكن منطقهم أبدا الغيرة على الفن أو الشغف بحرية التصور والتعبير، فهذه المصطلحات أعمق من أن يدركها أو يتبناها شخص ينبري في الهجوم على مواطن منزعج من عمل فني ويقيمه بأدواته البسيطة وحسب رؤيته لواقعه الخاص، وكذلك لم يكن نوعا من الدفاع عن الحق في التعبير، فالهجوم لم يكن بسبب طلب منع أو حجب أو معاقبة وإنما الهجوم والفوبيا كانا لمجرد إبداء الانزعاج «أخلاقيا». القضية هنا في حقيقتها أن هناك حالة مرضية عند البعض تدخل ضمن «الفوبيا»، مفادها أن بعض الأشخاص الذي يعيشون نمط حياة غير أخلاقي مناف للفطرة ويجعلهم غير مستريحين يقومون بجهد كبير للتصالح مع أنفسهم والتكيف مع وضعهم، وتبرير هذا النمط والتنظير له وتقديمه على أنه أصلا نمط أخلاقي ورقي فكري! هذا الجهد الكبير الذي يبذله هذا الشخص ليس سهلا نهائيا، بل أمر صعب للغاية فهو يصارع فطرته ويبدلها، ونتيجة لهذا الجهد المضني تراه بعد سنوات منبهرا بذلك البناء النظري العظيم الذي أسسه حول ذاته، وتلاحظه يشعر بالفخر والغرور كيف أنه أسس هذا البرج الفخم المتعال، ناظرا لكم الكتب والمقالات والتعليقات والتنظيرات فيشعر بنوع من الاعتزاز كيف أنه تعب وسهر لبناء هذا الصرح الشامخ، بل وكيف استطاع بكل حرفية وموهبة أن يساعد آخرين في بنائه. ولكنه في الحقيقة المحضة بناء هش جدا، يتسبب في حالة فزع صاحبه كلما اقترب منه الريح، وبالتالي تتحول كلمات هؤلاء الناس الذين لم يقرأوا قدر ما قرأ ولم يسهروا قدر ما سهر لتحصيل المعارف والعلوم لصيحة كصيحة البعث تذكره فورا بهشاشة بنيانه وضعف أساسه فينبري صراخا وعويلا. هذه الحالة المرضية علاجها معروف وهو مساعدة المريض في اكتشاف حقيقة بنيانه الوهمي وتقديم العون له في إعادة استخراج فطرته السليمة المدفونة تحت هذا المبنى، التي ستجعله يدرك أن «فوبيا» سماع الألفاظ النابية ومشاهدة العرايا وجنس المحارم وعقوق الوالدين وسفك الدماء والإباحية هي التي تعتبر فوبيا طبيعية وفطرية تدل على صحة نفسية صاحبها. وختاما ودون الدخول في النقاشات التفصيلية والجدلية لأن البعض سيضرب أمثلة وقصصا وحكايات ليؤكد نسبية القضية، نؤكد أن الأخلاق التي نتحدث عنها هنا هي الفطرة الإنسانية السليمة التي تنفر من القبيح وتقترب من الحسن وأن كل شخص قبل أن يستنفر لمهاجمة انتقاد ما لعمل ما من زاوية أخلاقية، عليه أن يسأل نفسه أولا هل هو مريض بالأخلاقوفوبيا أم أنه يحمل فعلا فكرا واعيا مدركا لما ينبغي أن يكون؟ وإذا لم يستطع الإجابة فليذهب للطبيب.