تحاور نافدة الوعي الباحث في علم الاقتصاد السياسي محمد عادل زكي في محاولة لتسليط الضوء على سبب غياب علم اقتصاد عربي في عصر ازدهار الحضارة العربية، برغم وجود بذور لهذا العلم لمح إليها مؤرخون مثل المقريزي. الباحث محمد عادل زكي مؤسس مدرسة الإسكندرية للاقتصاد السياسي وصدر له عدة كتب منها "نقد الاقتصاد السياسي" و"الاقتصاد السياسي للتخلف" الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في البداية كيف تظهر العلوم في المجتمعات الإنسانية؟وما هي شروط ظهورها؟ الكشف عن القوانين الموضوعية الحاكمة لظاهرة أو لطائفة معينة من الظواهر، هو المحرك المركزي لنشأة العلم وتطوره. ولكي ينشأ العلم الاجتماعي، ابتداءً من وجود الظاهرة الاجتماعية، يتعين أن تصبح الظاهرة: أولاً: على درجة من الهيمنة، بما تتضمنه من تكرارية وانتظام، تستنهض هذا العلم، وفي الوقت نفسه، وهذا هو الشرط الأهم. ثانياً: يكون الذهن الجمعي مهيئاً للكشف عن القوانين الموضوعية الحاكمة لآداء الظاهرة على الصعيد الاجتماعي. فالظاهرة الاجتماعية بوصفها (شيء) (مهيمن) اجتماعياً، بوصفها شيء يملك قوة خارجية ونفوذ مستقل عن أفراد المجتمع، إنما تجبر هؤلاء الأفراد على الانصياع لقواعدها، وكل سلوك بالمخالفة لها يقابل بالصدام والمقاومة، مادياً/ معنوياً، على الصعيد الاجتماعي. هذا الصدام قد يسفر عن العقوبة أو الاستهجان أو الخسران، فالأصل أن التشريع، كظاهرة، يصدر كي يحترم، ومَن يخرق أحكامه يقابل سلوكه بالعقاب. والأصل أن لكل جماعة قواعد سلوك معينة في الزي والطعام،… إلخ، ومَن يخرج عن هذه القواعد بأي شكل أو وسيلة يقابل سلوكه بالاستهجان. ومع النظام الرأسمالي فالأصل هو أن النشاط الاقتصادي والإنتاجي يكون بدافع الربح، ومَن يقوم بنشاط اقتصادي بالمخالفة لهذا القانون، الَّذي يمثل القوة والنفوذ الاجتماعي الَّذي يمارسه النظام الاقتصادي في المجتمع، سوف يقابل سلوكه هذا بميل عام نحو الخسارة التجارية والخروج من السوق. هل غياب ما ذكرته من شروط ظهور العلم في البلدان العربية قديما أدى إلى تأخر ظهور علم الاقتصاد السياسي حتى العصر الحديث؟ إذ ما أخذنا في اعتبارنا شرطي الظاهرة، لأمكنا معرفة سبب ظهور الاقتصاد السياسي منذ بضعة قرون فحسب، على الرغم من أن جل الظواهر الَّتي استنهضته كانت موجودة بل ومهيمنة منذ آلاف السنين من عمر البشر. فبالنسبة للشرط الأول، وهو هيمنة الظاهرة؛ فلقد كان أمام الرأسمالي، الَّذي يملك نقوداً يهدف إلى إنمائها، سواء كان في أورشليم في القرن الأول، أو في روما في القرن الثالث، أو في بغداد في القرن العاشر، على الأقل ثلاثة اختيارات: الاختيار الأول: أن يشتري سلعة بسعر منخفض ويعيد بيعها بسعر مرتفع ويحصل على الربح من الفارق بين هذين السعرين. وقد تتم هذه العملية في داخل البلد الواحد، أو عبر عدة بلدان في العالم القديم أو الوسيط. ويمكننا أن نلحق بهذا الاختيار المضاربات، مثل شراء الأراضي وإعادة بيعها، على الرغم من ندرة هذه العملية في تلك الفترة التاريخية. الاختيار الثاني: أن ينتج السلعة بدلاً من أن شرائها مصنَّعة. وحينئذ يأتي الرأسمالي، هو في الواقع سمسار، بمواد العمل إلى الحرفي أو الصانع في بيته أو حانوته، ويحتكر إنتاجه من السلع الَّتي سوف ينتجها هذا الحرفي أو الصانع مقابل الأجر اليومي الَّذي يدفعه له. نلاحظ هنا أن المنتج المباشر يستخدم، في الغالب، أدوات عمل مملوكة له، وليس للرأسمالي. ولكن العبرة في التحليل النهائي تكون بأن المنتج النهائي ليس ملكاً له. أما الاختيار الثالث، فهو: أن يقوم بإقراض نقوده إلى شخص آخر لأجل محدد وحين حلول الأجل يحصل على نقوده مضافاً إليها فائدة. أو يشتري ويبيع في النقود والقيام بشتى أعمال الصيرافة ويربح من وراء تفاوت واختلاف أسعار العملات. ويمكننا أن نرى هذه الاختيارات الثلاثة بوضوح عبر تاريخ النشاط الاقتصادي للبشر في مراحل التاريخ كافة كخيارات مطروحة وممكنة أمام الرأسماليين سواء كانوا، كما ذكرنا، في أورشليم أو روما أو بغداد أو في أي مكان في العالم القديم أو الوسيط. ومعنى تكرار هذه الاختيارات، الظواهر، وبانتظام، هو أننا، ومباشرة، أمام أشياء تستدعي التفسير وتحديد القوانين الموضوعية الَّتي تحكم آليات آدائها. فنحن أمام ظواهر: الشراء من أجل البيع، والربح، والإقراض، والفائدة،… إلخ. والأهم هو أننا أمام عدة ألغاز تتطلب الحل فنحن لا نعرف على أي أساس تحدد ربح الرأسمالي في أي اختيار من اختياراته. وعلى الرغم من كل ذلك، لا نجد الاهتمام من قبل مفكري العالم القديم، أو المتأخرين من مفكري العالم الوسيط، بتحليل هذه الأمور أو تقديم الإجابات على مثل هذه الاسئلة. لأن المراد تفسيره لم تضاف الهيمنة إلى موجوديته. أو أنه مهيمن ولكن الذهن الجمعي لم يكن مهيئاً للانشغال به. فلا شك في أن الحد الأدنى المفترض أنه مؤكد أن معدَّلات الأرباح في أي من الاختيارات الثلاثة في أورشليم أو في روما أو في بغداد، أو في أي مكان في العالم القديم أو الوسيط، لم تكن تتم بشكل عشوائي، وكان من المؤكد أيضاً أن ثمة قوانين موضوعية تحكم هذه المعدلات. ولكن الانشغال الفكري على الصعيد الاجتماعي كان موجهاً في اتجاه آخر غير الكشف عن هذه القوانين الموضوعية. كان موجهاً في اتجاه ظواهر أكثر هيمنة وأبلغ وضوحاً وتأثيراً. هنا يتبدى لنا الشرط الثاني من شروط الظاهرة القادرة على إنضاج العلم، وهو المتعلق بالذهن الجمعي. إذ لا يكفي أن يكون الشيء/ الظاهرة مهيمناً، بل يجب أيضاً أن يكون هذا الذهن مهيئاً للسعي نحو الكشف عن القوانين الموضوعية الحاكمة للشيء/ الظاهرة. فوفقاً لما ذكرناه يمكن القول بأن الذهن الجمعي في فينيقيا وآثينا وروماوبغداد وقرطبة لم يكن منشغلاً بالكشف عن القوانين الموضوعية الحاكمة للظواهر المتعلقة بالنشاط الإنتاجي على الرغم من هيمنتها اجتماعياً. يبدو أن التفسير الديني والميثولوجي يمكن أن يكون أداة لتفسير الظواهر الاقتصادية المتكررة كجزء من تطور الوعي الإنساني كما ذكر أوجست كونت، فما مدى صحة هذا التفسير بالنسبة للحالة العربية الإسلامية؟ اتفق معه تماما، فعلى سبيل المثال، إذ توجهنا إلى سواحل فينيقيا قبل الميلاد، فسنجد تجاراً مهرة وتجارة دولية رائجة، ومن ثم ربحاً تجارياً، ومع ذلك لا يوجد بأي حال أدنى انشغال بتحليل ربح التاجر مثلاً، وما يتعلق بهذا الربح من أشياء تخص النشاط الاقتصادي والإنتاجي على الصعيد الاجتماعي، ولكننا، في الوقت نفسه، نجد غزارة في التصورات الميثولوجية على صعيد الإنتاج الفكري. وإذا ما انتقلنا إلى مصر القديمة؛ فلن يختلف الأمر كثيراً، فسوف نجد تجارة وتجاراً وربحاً تجارياً. ولكن لن نجد، على صعيد الانشغال الفكري، إلا الإنتاج الذهني المتعلق بالعالم الآخروي والحياة بعد الموت…، إلخ. قد نجد مجموعة من البرديات عن المهن المختلفة في المجتمع، أو مجموعة من النقوش لبعض أنواع التبادل في السوق، أو مجموعة التماسات من قبل الفلاح الفصيح يشكو فيها سوء الأحوال الاجتماعية، ولكن يظل الانشغال الفكري الأساسي في هذه المرحلة متعلقاً بالحياة الخالدة بعد الموت. وفي آثينا أو روما أو بيزنطة أو غرب أوروبا في القرون الوسطى، وعلى الرغم من انتشار التجارة العالمية على سواحل البحر الأبيض المتوسط، إلا إن أهم ما وصل إلينا من إنتاج فكري وتحليلات نظرية سيكون متعلقاً، في مجموعه، بعلوم الفلسفة والسياسة والقانون وأدب الملاحم، دون أن نلمس انشغالاً علمياً بتحليل أية ظاهرة تتعلق بالرأسمال، فقد هيمنت أشياء اجتماعية أخرى على مجمل المسرح الاجتماعي، كالعبودية وعلوم الجدل والفلك والفتوحات العسكرية والحروب المفتوحة، أو الدوجما الكنسية وصراعات الأباطرة والباباوات، والإقطاع وترسيخ التراتبية الاجتماعية الَّتي تدور حول ملكية الأرض. هل ترى أن هيمنة الفقه في الثقافة العربية قد أثر بالسلب على ظهور علم اقتصاد عربي؟ نعم، بالضبط ففي بغداد أو قرطبة أو القيروان، وعلى الرغم من انشغال علماء ومفكري وفناني هذا العصر الذهبي بشتّى الظواهر الاجتماعية وتحليل أدق تفاصيل الوجود الإنساني، والسعي الدؤوب من أجل الكشف عن أسرار الكون إلا أن ظواهر الرأسمال لم تستحوذ على اهتمام من قبلهم. وحتى الَّذين تماس انشغالهم مع تحليل التجارة والصناعة، وأوجه النشاط الاقتصادي والإنتاجي في المجتمع بوجه عام، مثل ابن خلدون أو إخوان الصفا. فحتى هؤلاء لم يتقدم تحليلهم إلى أبعد من وصف تجريدي للأشياء الموجودة. على أن نأخذ في اعتبارنا انشغال الفقهاء المسلمين في القرنين السابع والثامن بشتى مظاهر النشاط الاقتصادي والإنتاجي إنما جاء انطلاقاً من الانشغال الفقهي، فقد عالجوا مسائل الأرباح والأجور والصرف… إلخ. وهو ما لم يكن ممكنا إلا ابتداءً من تبلور جميع هذه الأشياء/ الظواهر على أرض الواقع بوصفها أشياء مهيمنة، بيد أن الانشغال كان موجهاً نحو مسائل الفقه وقضايا الشريعة، ولذا تم معالجة الأشياء/ الظواهر المتعلقة بالنشاط الاقتصادي والإنتاجي ابتداءً من الفقه. ومن ثم حال الاهتمام بتاريخ الأمم وسير الملوك وتراجم الرجال، وقبل كل ذلك الاهتمام بعلوم الشريعة (المتضمنة أوجه النشاط الاقتصادي) والصراع الفكري، الَّذي كان له الأهمية المركزية، بين النص المقدس والتأويل، من جهة، ومحاولة التحرر من سلطة النص الوضعي وسطوة الفقيه من جهة ثانية، واكتشاف الكون بواسطة العقل، والعقل وحده، من جهة ثالثة، وما يتعلق بكل هذا من علوم الكلام، وما صاحب ذلك أيضاً من حركة ترجمة واسعة لعلوم فارس واليونان. نقول حال الاهتمام بذلك دون تكون الانشغال الفكري بأساس ربح التاجر/ الرأسمالي (وبالتالي فائدة المرابي، وربح الصانع) والكشف عن القانون الموضوعي الَّذي يحكمه. إن السبب الوحيد الَّذي منع نشأة (علم) اقتصادي في القرن العاشر، في بغداد أو قرطبة، على الرغم من توافر جُل الأشياء/ الظواهر الَّتي أنضجت العلم الاقتصادي، هو هيمنة الفقهي. وابتداءً من القرن الثامن، وحينما همت التجارة بالتأهب لبسط هيمنتها؛ كي تصبح الظاهرة الأكثر سيطرة على باقي الأشياء الاجتماعية، أو على الأقل تحتل مكانة مرموقة بين هذه الأشياء، وقد تلاقت هذه الهيمنة مع ذهنية جمعية صارت مهيئة لتكوين الوعي بطبيعة التجارة والسلع وخصائصهما، وصفات التجار وقوانينهم، أمكننا قراءة الاجتهادات الأوليّة: للجاحظ (776-868) والدمشقي (القرن الحادي عشر) وابن خلدون؛ وماجنوس(1200-1280) والأكويني (1225-1274) وأوريزم (1320-1382). كإرهاصات. محاولات. مجرد محاولات أولية بطبيعة الحال، للانشغال الفكري بتحليل التجارة وما يتعلق بها من ظواهر كالسلع والأثمان والأسواق والأرباح… إلخ. وحينما تتفجر الثورة الصناعية في أوروبا الغربية، وتتبلور معها العشرات من الأشياء/ الظواهر الجديدة وغير المألوفة (بالنسبة لغرب أوروبا)، وفي الوقت نفسه كان الذهن الجمعي مهيئاً تماماً، بعد التحرر من سلطان الوصاية الفكرية الَّتي ضربت على القارة طيلة قرون من الظلام، للكشف عن جميع القوانين الموضوعية الَّتي تحكم آداء جميع الأشياء/ الظواهر الَّتي تبلورت على سطح الحياة الاجتماعية. ولذا ظهر الاقتصاد السياسي كعلم هدفه البحث عن القوانين الموضوعية الَّتي تحكم الإنتاج والتوزيع ونمو الاقتصاد وتطور قوى الإنتاج في المجتمع الجديد. كثيرا ما تسلط الضوء على دور الفقيه في تأخر علم الاقتصاد العربي، برغم أن منهم من برع حتى في الفلسفة مثل ابن رشد، فما هو حيثيات حكمك على هذا الدور؟ إن السبب الوحيد، كما ذكرنا، الَّذي منع نشأة (علم) اقتصادي في القرن العاشر، في بغداد أو قرطبة، على الرغم من توافر جُل الأشياء/ الظواهر الَّتي أنضجت العلم الاقتصادي، هو هيمنة الفقهي. فقد كان الفقيه هو العالم الاقتصادي والمفكر الاجتماعي الذي يمتلك الإجابة عن كل ما هو اجتماعي. وما هو اجتماعي آنذاك لم يكن ممكناً ذهنياً فصله عن ما هو ديني. فجميع كتب ومؤلفات الفقهاء ترتب تريباً معيناً فهي عادة تبدأ بالعقيدة، كمسائل التوحيد والطهارة والصلاة، حتى تبلغ إشكاليات الحياة الاقتصادية التي تصدى لها الفقيه بكل شمول. فنجد معالجة للنقود والصرف والإيجارة والشركة والتأمين والأرباح والأجور… إلخ، وجميع هذه المعالجات وجدت مصدرها آنذاك في الفقه وعلوم الشريعة. الفقيه إذاً كان هو المفكر الاقتصادي، وجميع ما يثار من مسائل تتعلق بالحياة الاقتصادية كانت محل إجابة من قبله. إجابة شرعية. وهو ما يعني عزل النشاط الاقتصادي، ذهنياً، عن تفاصيل الحياة الاجتماعية وقوانين حركتها. فالفقر قدر، والأزمة ابتلاء كي يجزي الله الشاكرين، وارتفاع الأثمان غضب من الله، والبركة هي أساس التقدم على الأمم، وبالتالي لم يجد الفقيه ضرورة في التعرف على ال (لماذا) واكتفى ب (ما هو). فلم ينشغل ب (لماذا) تهيمن ظاهرة الفقر ابتداءً من قوانين موضوعية. إنما الاهتمام الأول كان (ما هو) الحكم الشرعي للفقر، والصبر عليه؟ وفي أفضل الأحوال كانت الإجابة معدة سلفاً إذ ما طرح ال (لماذا). وهي الإجابة المرتبطة كلياً دائماً بما هو غيبي لا بما هو اجتماعي. هل يمكن تسليط الضوء على بعض المفكرين العرب أصحاب الدور البارز في هذا العلم؟ في تاريخنا العديد من هؤلاء المفكرين، فلدينا إخوان الصفاء وخلان الوفاء (من علماء القرن العاشر) فنراهم في الرسالة الثامنة من القسم الرياضي في الصنائع العملية والغرض منها، يعالجون وعلى أعلى مستوى من التجريد طبيعة السلع والخدمات في المجتمع. ولدينا كذلك عمر بن يحي الكناني الأندلسي، والجاحظ، والدمشقي، وابن خلدون طبعاً، ولدينا أيضاً المقريزي، الذي ربما يكون من قلائل المفكرين العرب الذين حللوا، وباقتدار شديد، ظاهريات الأزمة الاقتصادية. هو لم يكن يقصد بطبيعة الحال تقديم مساهمة علمية بالمعنى الذي نقصده الآن، إنما المدهش هو الأدوات الفكرية التي استخدمها، حال رصده للأزمة، في سبيل الكشف عن القوانين الموضوعية الحاكمة لهذه الأزمة على الصعيد الاجتماعي.