تتسم العوامل ذات البعد الديموغرافي والتاريخي والجيوسياسي المكوّنة لمسألة تشكُل الدول القومية بتركيب خاص يرجع إلى تعدد العوامل المكوّنة لواقع "الدولة" والأمة التي تفرزها وتحتويها، وفي الصدارة يأتي العامل الاقتصادي كأساس يُبنى عليه هيكل الدولة، ببنيته العليا من توجهات فكرية وعقيدة قومية، نظرية أو عملية، من هنا ارتبطت نشأة الدول القومية تاريخيا، بالتحولات التي شهدها النمط الاقتصادي الاجتماعي في الأقاليم الجغرافية المتعددة للعالم ولتلك الدول، ومفاعيل السمات الخاصة بتلك الأقاليم في سمات الدولة القائمة، بالإضافة إلى فاعلية الشعوب وطبقاتها الحاكمة والتناقضات الداخلية للطرفين سواء كانت ثانوية أو أساسية. نظريا سمح واقع التشكيلة الاجتماعية الكردية، القائمة عمليا على العرق، بتشكُل لأمة كردية على قدر من اكتمال الأركان والشروط المنتجة ل"أمة" وفقا للعامل البشري السكاني، ولكن على الوضع الراهن لا تكفل التشكيلة السياسية لسايكس بيكو لتلك الأمة حيازة عامل رئيس وهو الأرض، العامل الذي امتد غيابه ليؤثر، موضوعيا على المشهد السياسي الداخلي للأكراد والهياكل الاجتماعية السياسية القائدة لهم، والتي اكتسبت الجانب الجوهري من شرعيتها على أساس من تمثيل مصالح الشعب الكردي في مواجهة دول وكيانات قائمة بالفعل اكتسبت وجودها بدورها، من تشكيلة سايكس بيكو، وتمت مصادرة فاعلية شعوبها نحو إقامة دولة حديثة من خلال انتقال مساحة سيطرة الدولة العثمانية إلى الدول الأوروبية، وعلى ذلك لم يكن للأكراد ولا للقاعدة الجماهيرية والشعبية للعرب دور في التقسيمة الحديثة والمعاصرة للدول الحالية الواقعة في دائرة الانتشار الكردي، وإنما كفل قيام وفاعلية طبقات حاكمة عربية ملتحقة بمشروع سايكس بيكو وجذوره وقتها، قيام التشكيل الحالي من تلك الدول، في غياب للإمكانيات التي يفتحها الاتصال المباشر للشعوب والموارد والثروات والأسواق والمنافذ التجارية، وفي تسييد للسمة "الجهوية" داخل القومية العربية الواحدة، ذات الأمة الكاملة المستوفية لشروط نشأة دول أكبر ذات قدرة أعلى على النهوض الاقتصادي، بموارد أغنى وأيدٍ عاملة كثيفة وأسواق أوسع، ومن ثم أكثر قدرة على استيعاب تناقضات العرق والدين. الجغرافيا.. البنية العشائرية والهيمنة الأمريكية في المشهد الحالي يعمل تناقض القوى السياسية الكردية الرئيسية، كانعكاس لتفكك البنية الاجتماعية الكردية ذاتها بين أكثر من دولة مع اختلاف نموذج كل منهن في استيعاب، أو عدم استيعاب، الكتلة السكانية الكردية داخلها اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا على أرضية من المواطنة الحديثة بالمفهوم البسيط، مع "مظلة تركية"، متناقضة داخليا تسود الحضور الكردي ومصيره كقضية أمن قومي تركي حقيقية، ويكمن تناقضها الأعلى في أنها أقرب تلك الدول لنموذج الدولة الحديثة على النموذجين: التقليدي الغربي، الممتزج مؤخرا بالصبغة الإخوانية، والعملي الموضوعي من حيث البنية العامة والنمط الاقتصادي والتشكيلة الاجتماعية باتساعها الأقرب لتجاوز القَرابية والعشائرية، مع إخفاقها الطويل في حل المسألة الكردية التي تمثل، بحكم الأمر الواقع، الأزمة الأطول والأصعب على الحل في تاريخ تركيا الحديثة، وضعية هي ذاتها نتيجة لنشأتها كدولة قومية بعد سقوط الكيان التركي العربي الكردي الجامع، الدولة العثمانية، ونصيبها من الكثافة السكانية الأكبر من الأكراد في الجنوب والشرق، والتي تم تهجير كتل منها من الجنوب نحو الدول الأقل بلوغا للتطور الاقتصادي والتحديث والتي تعرضت للاستعمار الغربي، سورياوالعراق، في إطار تفكك الجسد العثماني، ثم مراحل التمرد السياسي الكردي في الداخل التركي بداية من وضعية ما بعد سقوط الدولة العثمانية وصولا إلى المرحلة المعاصرة وهي ذروة هذا التمرد، الموازية لذروة احتياج النفوذ الأمريكي في المنطقة العربية والشرق الأوسط والأناضول إلى حليف على الأرض، بعد انسحاب خليجي عملي من سوريا وتآكُل للفاعلية الأمريكية المطلقة والناجزة (سابقا) في هذا القطاع من الإقليم. إجمالا، ظلت التشكيلة الاجتماعية الكردية على نمط اجتماع للعشائر، بصفة إحصائية عامة، مما انعكس في تركّزات عائلية وجهوية محدودة للثروة والنفوذ على مستوى العشائر والجهات وداخل كل عشيرة وجهة، في نموذج مفارق للنمط الاجتماعي القومي من حيث المبتدأ والمنشأ وللشكل الدولتي قديمة وحديثة، تركّزات لم تنجح خلال عشرات الأعوام في تمثيل مصالح أغلبية الكتلة السكانية "القومية" تلك بما يجمع التناقضات الجهوية والعشائرية على أرضية قومية، وصولا إلى إقامة دولة تلبّي مصالح الكتلة السكانية الأكبر من الأكراد، والمتركّزة في القطاع الجغرافي الأبعد عن تحقيق أكبر قدر من المواطنة لهم أي تركيا، مع ما آل إليه نموذج الإقليم الفيدرالي الكردي في العراق، في اربيل المركز الإقتصادي والسياسي الذي يصب فيه نصيب كردستان العراق المقتطَع من موارد الدولة العراقية، من استئثار قَرابي عشائري محض بالثروة والحكم من خلال بعضهما البعض، تحت سيطرة الحزب "الديموقراطي" الكردستاني والبيشمركة وآل بارزاني ونخبتهم الكردية الحليفة، بلا أدنى تمثيل لمصالح أكراد العراق ومن ثم لعشائر أخرى لم يتسنَ لها الحكم والتسلُح والنفوذ، استئثار طبيعي التكوين في إطار نموذج كهذا، أي عشيرة غالبة على مثيلاتها في حيز جغرافي ذو اجتماع قَرابي واقتصاد تابع وريعي ومجتمع منقسم سياسيا، أي العراق منذ عام2003، من هنا كان طبيعيا أن يتولى أبناء مسعود بارزاني وظيفتا رئيس مجلس الوزراء ومستشار مجلس أمن الإقليم، مع تمثيلهما للإقليم في العلاقات مع الولاياتالمتحدة، وتصاعد تلك العلاقات والدعم والغطاء الأمريكييَن، بموازاة تعطيل "البرلمان" الكردستاني لعامين بسماح أمريكي ظاهر، في نفي لأي سمة ديموقراطية أو مستقلة للكيان الكردي القائم، وجاء الاعتراض الأمريكي على استفتاء انفصال الإقليم حدا ظاهريا أدنى لا يعني ذاته، في إطار علاقات الوكالة المماثلة. في إيران، جاءت موجات التمرد الكردي، تاريخيا كنبضات إرتدادية للنفوذ السوفييتي حينا ولصعود التمرد الكردي في العراق حينا آخر، وصولا إلى خفوت الحاجة إلى قيام إقليمي كردي في إيران أو فصل القطاع السكاني الكردي عنها نحو كيان قومي، منذ أوائل الثمانينات، بموازاة إنحسار المؤثر الماركسي عمليا وفكريا وخطوات إيرانية سريعة نحو حسم تناقض المصالح مع العراق، ثم نحو دولة أكثر حداثة، فضلا عن إنسجام كردي نسبي قديم، مقارنة بالدول المحيطة، داخل التشكيلة الاجتماعية الإيرانية عرقيا وثقافيا ودينيا، مما انعكس على موقف التمثيل السياسي الكردي الرسمي في إيران الرافض للإنفصال أو الفدرلة، أي وضع تفيد خلخلته المصالح الأمريكية بقيام كيان تابع لها وحليف للكيان الصهيوني على الحدود الإيرانية، ي محيط جيوسياسي معادٍ للنفوذ الأمريكي المنحسر بالفعل، ومعادٍ للنفوذ الصهيوني ولتطبيع وضعه في المنطقة. الاختلاف الجهوي والمحاصصة الاقتصادية والسياسية بين النُخَب على الأرضية العشائرية تتباين القوى السياسية الكردية، المنقسمة ارتكازاتها الاجتماعية بين أكثر من مركز على تبايُن في العشائر والسمات والإمكانات، من أربيل العراق حيث سيطرة الحزب الديموقراطي وآل بارزاني إلى السليمانية المجاورة، حيث النفوذ الأعلى لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال طالباني، الذي يتقاسم السلطة مع الحزب الديموقراطي في كردستان، تبايُن وجد تمثّله الأعلى مؤخرا في موقف الحزب برفض استفتاء إنفصال الإقليم، ببنية الحزب الأقرب لتشكيلة "مدينية" كردية أكثر تماهياً مع التشكيلة الإجتماعية العامة للعراق على إتساعها، ومن ثم أكثر حضوراً في بنية السلطة "الإتحادية" على وضعية ما بعد عام 2003 وتولّي طالباني منصب رئاسة العراق، فضلاً التوافق التاريخي مع إيران في إطار الصراع الكردي مع النظام العراقي قبل 2003 وكذلك الصراع الكردي الكردي، بينه وبين الحزب الديموقراطي، في ذات المرحلة، ومن ناحية أخرى تتراوح علاقة حزب العمال الكردستاني وذراعه العسكري ال"بي بي كاي" مع الحزب الديموقراطي بين التفاهم العملي الهشّ، الذي فرضه وجود داعش، والصراع على مناطق النفوذ حين وجد حزب العمال في الاجتياح الداعشي لشمال العراق فرصة للتمدد، وصولا إلى إرتكازه بنفوذ قوي في سنجار ودهوك، بعد تشكيله لكيان مسلّح جديد عام 2015 هو "وحدات الدفاع عن سنجار"، وقد شهد العامان اللاحقان صراعات مسلحة بين البيشمركة والقوات التابعة لحزب العمال على حيازة السيطرة على قطاعات جغرافية في محافظة نينوى، الأمر الذي جعل الحزب متحفظا على الإستفتاء الذي سيكفل شرعية للحزب الديموقراطي، ويحصر وضع قوات حزب العمال في خانة المتمردين الخارجين عن الإجماع الكردي العراقي في الكيان الإنفصالي الجديد. يختلف نموذج وبنية الاتحاد الوطني بزعامة جلال طالباني عن حزب بارزاني القائم أكثر على العشائرية الطَرْفية والريفية لشمال البلاد، دون أن يعني هذا تجاوز الحزب وقواعده للقَرابية أو للأرضية الأمريكية، إذ شغل قباد طالباني، نجل جلال، منصب ممثل الحزب في الولاياتالمتحدة ثم الممثل السياسي للإقليم بأكمله هناك، قبل أن يتولى منصب نائب رئيس وزراء الإقليم في إطار محاصصة السلطة بين الحزبين، وعلى ذلك، اختلفت أربيل والسليمانية مؤخرا على إستفتاء الإنفصال بعد فصول من التوافق الهش، الذي أعقب نزاعات مسلحة طاحنة بين الحزبين المنقسمين داخل إطار سلطة واحدة، إقليم كردستان العراق، والمسيطر كلا منهما على جهة جغرافية مركزية كرديا، وصولا إلى شِبه انقسام داخل حزب الاتحاد الوطني نفسه إذ أعلنت مكوّنات منه تأييد الإستفتاء خلافا لقياداتها، مع نفوذ للحزب بصفة عامة في كركوك الغنيّة بالنفط والمتنازع عليها مع الحكومة العراقية، والتي سيطرت عليها بيشمركة الحزب الديموقراطي عام 2014 في خضم التدافع مع داعش، لتفتح إمكانية ضمها للإقليم الإنفصالي المُزمَع بابا للثروة الريعية النفطية، يسيل له لعاب نخبة بارزاني القَرابية العشائرية السياسية، مع إدراك الاتحاد الوطني أن أوراقه على الأرض، في مجمل الإقليم وفي جوهره كركوك النفطية، لن تسعفه غالبا ليضمن نصيبا مُرضيا من ريوع هذا النفط رغم نفوذه غير القليل في كركوك، بعد واقع الاستئثار العائلي بالثروة الذي أقامه حزب بارزاني لينتهي نصيب الإقليم من ثروة العراق إلى قيادات الحزب والعشيرة، لا إلى الخمسة ملايين كردي القاطنين بالإقليم. إجمالا، أثمرت سيطرة الحزب الديموقراطي الكردستاني على إقليم كردستان العراق عن بناء اجتماعي وسياسي مغلق، يستحيل في ظله تكوين قوى شعبية كردية تمثل مصالح أغلبية أكراد العراق، وتكفل منظومته الداخلية قطع الصلات والروابط الوطنية العادية بين أكراد الإقليم ومواطنيهم من العراقيين، إذ وضعت المنظومة هيكلا تعجيزيا من الإجراءات والمحاذير على الانتقال الجغرافي الطبيعي لمواطني العراق إلى الإقليم، في حين ضمن الحكم الذاتي للإقليم حصة اقتصادية من موارد الدولة العراقية تسيطر عليها إدارته، ومن هنا تستفيد الشريحة العائلية الحاكمة من كردستان، على ما بها من فساد مالي وإداري، من الحكم الذاتي وترسّخ في الوقت ذاته، بسياساتها، الإنقسام العِرقي والعشائري والقَرابي.