يميل المعظم في متابعتهم لحدث ما إلى التعميم، خاصة وإن كان هذا الحدث متعلق بقضية بعيدة إلى حد ما عن الاهتمامات اليومية، وبالتالي يُطلق العنان للتعميم والإسقاط وغيرها من التكتيكات النفسية التي يجيد مسيري الأخبار اللعب عليها في استقبالك للمحتوى الإعلامي عبر مختلف وسائل الإعلام.. الأكراد يريدون دولة لهم في استفتاء جرى اليوم. موقفك من هذا سيكون حسب الرائج، سلباً أو إيجاباً، إذا لم تكن على معرفة معقولة بالمسألة الكردية، لتفرق بمنتهى البساطة بين معظم المسارات السياسية للأكراد في مختلف الدول لحل مشكلتهم، وبين إقليم كردستان ومسار التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، والأخير بالذات وأشخاصه أضروا بالقضية الكردية أكثر مما نفعوها، وبالتالي ستعرف أن الحل الذي يطرحه مسعود برزاني مرفوض من معظم الأكراد حتى في كردستان العراق نفسها! وبغض النظر عن مواقف الدول والقوى المؤثرة دولياً وإقليمياً، فإنه من الضروري استبيان هذه المسارات والاتجاهات قبل المصادرة بالرفض أو القبول تجاه ما يحدث مؤخراً في مسار المسألة الكردية، فعلى سبيل المثال لا الحصر تعداد الأكراد في كل العراق –وليس في فيدرالية كردستان العراق فقط- 5.2 مليون كردي، فيما تصل تقديرات عدد الأكراد في تركياوالعراقوإيران وسوريا نحو 40 مليون، و60 بباقي دول العالم، أي أنه على أقل تقدير ومن منطلق رياضياتي لا يجوز أن تعمم حل "يوافق" عليه أقل من 10% – وهو الاستفتاء بغض النظر عن التصويت بلا أو نعم- كحل لكل الأكراد في كل الأماكن. وبخلاف السابق إيضاً، فإن النظر إلى البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتخلفة في كردستان العراق، فإن دولة قومية تعني تكرار معاناة الأكراد بنفس الحل الذي سبب مشكلتهم في الأساس، وهو الدولة القومية، التي تأتي كمهرب للأمام من قادة الإقليم وتحديداً برزاني، الذي يدير الأمور فيه على مستوى داخلي وفق منظومة عشائرية قبلية أشبه بمشيخات الخليج في السبعينات، وبالتالي يفتقد لمقومات الدولة الحديثة، ناهيك عن رجعية فكرة الدولة القومية ذات البُعد الواحد التي باتت لا تصلح لهذه المرحلة من حياة البشر، والتي أمامها يطرح عموم الأكراد فكرة الأمة الكردية بعيداً عن فكرة الدولة القومية بشكلها الرجعي. في هذا الإطار، نشر معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، بانوراما بعنوان "المستقبل المظلم لكردستان"، والمفارقة أن كاتبها هو أحد كبار المستشارين في مجلس الوزراء الخاص بفيدرالية كردستان العراق، والذي يعني ضمنياً أن فكرة الدولة القومية مرفوضة حتى ضمن الطبقة السياسة لأكراد آربيل. وتعرض فيها لمختلف الأوجه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمنية التي في رأيه تجعل فشل "دولة كردستان" حتمياً. وفيما يلي نص المقال: تشكّل قضية الاستقلال موضوع نقاش محتدم في إقليم كردستان العراق. فيزعم رئيس "الحزب الديمقراطي الكردستاني" مسعود برزاني أن دحر تنظيم "داعش" سيغيّر خارطة العراق والشرق الأوسط ويمنح الأكراد فرصةً لإعلان دولة خاصة بهم. وناهيك عن الأسئلة المحيطة بمصداقية المطالبة بالاستقلال، يحاول هذا المقال رسم الخطوط العريضة لطبيعة دولة محتملة. فإن افترضنا أن مطالب "الحزب الديمقراطي الكردستاني" صادقة ومحقة وأنه سينجح في مسعاه هذا، تشمل الأسئلة المهمة التي تطرح نفسها نوع الدولة التي ستنشأ وما إذا كان الأكراد سينجحون في معالجة مشاكلهم الراهنة للحيلولة دون اندلاع أزمات مستقبلية. يشير تاريخ كردستان العراق والوضع الراهن إلى أن مستقبل دولة كردستان مستقلة ليس مضمونًا وأنها قد تواجه خطر الفشل. ويتمثل تعريف دولة فاشلة في أنها سلطة غير شرعية عاجزة عن تأدية مسؤولياتها الأساسية على غرار ضمان التعليم والأمن لأبنائها. النظام السياسي سيكون النظام السياسي المستقبلي في كردستان امتدادًا للنظام القائم، الذي يبدو نظريًا ديمقراطيًا إنما من الناحية العملية يزداد استبدادًا. ف"الحزب الديمقراطي الكردستاني" يعتبر نفسه الحاكم الشرعي لإقليم كردستان وذلك كونه الفائز في الحرب الأهلية مع "الاتحاد الوطني الكردستاني" بين عامي 1994 و1998. وبما أن مسعود برزاني وحزبه يعتبران أنفسهما مالكي كردستان العراق، فهما لا يقبلان بالديمقراطية إلا ضمن الحدود التي تخدم مصالحهما. وبالفعل، لقد مالا إلى قمع الديمقراطية حين طرحت تهديدًا على مصالحهما. فعلى سبيل المثال، طرد "الحزب الديمقراطي الكردستاني" رئيس مجلس النواب في 10 ديسمبر 2015 عندما حاول البرلمان تعديل قانون الرئاسة لإجراء انتخابات رئاسية عادلة. واستنادًا إلى هذه الأحداث التي جرت مؤخرًا، ثمة احتمال كبير بأن يتمثل الهدف من مطالبة كردستان بالاستقلال بترسيخ السلطة في شخص واحد وحزب واحد وجماعة مهيمنة واحدة. وقد يمهد ذلك لسيطرة نظام استبدادي وغير ديمقراطي. وعوضًا عن بناء دولة ومؤسسات، عمل "الحزب الديمقراطي الكردستاني" على تعزيز هيمنته وقام بترهيب أي فرد أو جماعة يخالفه الرأي أو ينتقد سلطته. الأمن من الجدير بالذكر أن القوات العسكرية الكردية غير موحدة ولا تنضوي تحت راية مؤسسة، وتنقسم بين الحزب الديمقراطي الكردستاني" و"الاتحاد الوطني الكردستاني" منذ قيام "حكومة إقليم كردستان. ويتولى كل من الحزبين قيادة قوات البيشمركة وقوات أمنية خاصة به، كما يملك الزعيمان السياسيان للحزبين حراسًا شخصيين وقوات خاصة. وتُعتبر الطبيعة المفككة للقوات الأمنية تهديدًا للتعايش بسلام. ولطالما برز احتمال كبير باستخدام "الحزب الديمقراطي الكردستاني" و"الاتحاد الوطني الكردستاني" قواتهما الأمنية المنفصلة في صراع داخلي، كما حصل سابقًا. كما ستعاني قوات البيشمركة لإبقاء كردستان مستقلة بمنأى عن التهديدات الخارجية، لا سيما من الدول المجاورة. فتركياوإيرانوالعراق وسوريا أقوى عسكريًا واقتصاديًا من كردستان، فضلًا عن أن غياب الوحدة ونقص الأسلحة والتدريب والتمويل للقوات الكردية قد يؤدي إلى انهيارها، ما يجعلها عديمة الفائدة. ويتمثل مصدر قلق آخر في احتمال تفاقم الثغرات الأمنية القائمة أساسًا بسبب التحديات الجغرافية والقيود المفروضة على قدرات البيشمركة الواردة أعلاه. فقد تسعى الميليشيات إلى سدّ الثغرات الأمنية الآخذة في الاتساع، ما يطرح تهديدًا أمام "حكومة إقليم كردستان" والدول المجاورة. الاقتصاد يعاني إقليم كردستان العراق اليوم من أزمة اقتصادية عميقة قد يفاقمها وجود كيان دولة: زعم "الحزب الديمقراطي الكردستاني" أن بيع النفط وتأسيس اقتصاد مستقل عن بغداد سيضع كردستان على خارطة الطاقة العالمية، ما يسهّل استقلالها ويجعل اقتصادها مزدهرًا. لكن لسوء الحظ، باءت سياسة الاستقلال الاقتصادي بالفشل حتى الآن. ومنذ أن خفضت بغداد حصة "حكومة إقليم كردستان" في الموازنة الاتحادية في شباط/فبراير 2014، واجهت هذه الأخيرة أزمةً اقتصادية شديدة. وبحسب وزير الموارد المعدنية الطبيعية الكردي أشتي هورامي، تناهز ديون "حكومة إقليم كردستان" الإجمالية 20 مليار دولار. كما تشير اكتشافات حديثة إلى أن إقليم كردستان العراق لا يملك احتياطيات لنفطية كبيرة كما زعم سابقًا. وحاليًا، تُنتج كردستان وكركوك معًا نحو 700 ألف برميل في اليوم. وخلال السنوات القليلة الماضية، خفض عدد من الشركات النفطية، بما فيها "إكسون موبيل" و"شفرون"، عدد المناطق الاستكشافية في كردستان. وفي حين أشارت معظم التصريحات الرسمية إلى مستويات إنتاج منخفضة، أشارت بعضها إلى أن عمليات الانسحاب هذه ذات اعتبارات سياسية أكثر منها أمنية. نظرا لان اقتصاد إقليم كردستان يعتمد اعتمادا كبيرا على النفط، فمن غير المحتمل أن يبقى صامدا على المدى الطويل. فخلال السنوات الخمس والعشرين الفائتة، عجزت السلطات الكردية عن بناء اقتصاد محلي قوي قادر على تأمين أساس متين لبناء دولة مستقلة. وفي الواقع، عملت على تدمير الاقتصاد التقليدي لصالح النفط وشجعت الاستهلاكية داخل المجتمع الكردي. ويواجه اقتصاد "حكومة إقليم كردستان" مشاكل هيكلية ترتبط بالفساد وانعدام الشفافية واحتكار الأسواق والتدخل المفرط في الشؤون الحكومية من قبل زعماء الأحزاب لصالح شركات أو أشخاص نافذين مرتبطين بالحزب. وقد ساهمت هذه المشاكل في انتشار الظلم بطريقتين. أولًا، أسفرت عن بروز أقلية ثرية تتمتع بعلاقات وثيقة مع الأحزاب الحاكمة، في حين بقيت غالبية الشعب فقيرة. ثانيًا، ظهرت فوارق جغرافية كبيرة أثبتها التفاوت الكبير بين المدن والمناطق الريفية. الجيوسياسية جغرافيًا، من شأن دولة كردستان مستقلة ألا تملك منفذًا بحريًا وأن تكون محاطة بالكامل من دول مجاورة لا تدعمها بالكامل. وبالتالي، فإن الموقع الجغرافي وانعدام الاكتفاء الذاتي قد يجعلان "حكومة إقليم كردستان" تخسر سيادتها الوطنية أو يؤديان إلى رضوخها لإحدى الدول المجاورة – لا سيما تركيا أو إيران. وفي حال رضخت الحكومة، ستعاني دولة كردستان من تدخلات متكررة قد تزعزع استقرارها. وبالفعل، قد تصبح دولة كردستان المستقلة مسرحًا شائعًا للصراعات الإقليمية. الخاتمة استنادًا إلى المؤشرات المذكورة أعلاه، قد يكون فشل دولة كردستان مستقلة محتمًا. وعوضًا عن توفير السعادة والراحة إلى الشعب الكردي، سيعزّز الاستقلال القلق والانقسامات الداخلية وظروف المعيشة الرديئة والتدخلات الخارجية والتبعية. فكل كردي يحلم بدولة مستقلة. لكن هذا الاستقلال قد لا يكون مستحقًا لكابوس قد يتبلور. فالعامل الأهم ليس الاستقلال بحدّ ذاته، إنما نجاح.