عشرون عاما مرت على رحيل أديب العربية الأكبر، العلامة المحقق محمود شاكر.. سنوات كان كافية لإثبات أن ساحاتنا تظل مقفرة عندما تخلو من الكبار، فقد بلغ شاكر ذروة في كل ما تصدى له، من أدب أو نقد أو شعر أو تحقيق، فهذه آثاره خوالد حية لا ينقطع الجدل بشأنها، إذ لا يمكن للذاكرة الأدبية العربية المعاصرة، أن تنسى "المتنبي" أو "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" أو "بيني وبين طه" أو المعركة الكبيرة المدوية "أباطيل وأسمار" أو القصيدة الإنسانية الباقية "القوس العذراء".. وصحيح أن الحفاوة الأكبر بشاكر تأتي من التيارات المحافظة، وأصحاب التوجهات السلفية، الذين رأو في الرجل مدافعا صلبا عن هوية الأمة ولغتها وحضاراتها، لكن شاكر حظي أيضا باحترام كبير من ليبراليين وعلمانيين، كانت لديهم القدرة على الفصل بين أفكار الشيخ وبين قدراته على توظيف أدواته، بين ما يخلص إليه من نتائج ومواقف وبين صرامة منهجه وقوة منطقه وإحاطته الموسوعية بما يتصدى له. ولعل الطريقة التي اختارها شاكر في تحقيقاته كانت سببا مهما آخر لهذا التقدير الذي يناله الشيخ من تيارات مختلفة، فالرجل يوظف كل قدراته وخبراته وإحاطته لييسر قراءة نص عربي كتب بلغة تصعب على كثير من المعاصرين، لكنه يفعل هذا في تلطف حتى لا تكاد تشعر به، ولا يفرض عليك موقفه تجاه ما تقرأ، كما يفعل كثير من محققي الكتب، الذين يحملون النصوص بأعباء وأثقال، بل ويتجنون على أصحاب النصوص ويقولونهم ما لم يقولوا. كان شاكر يرى أن المستشرقين وضعوا قواعد للتحقيق تسهل لغير العرب عملية تقريب الناقص من حروف المخطوط، وقد تأثر بطرائقهم وقواعدهم عدد من المحققين في بلاد العرب والمسلمين، فأصبحوا لا يعتبرون أن كتابا ما قد حقق تحقيقا صحيحا إلا إذا امتلأت هوامشه بهذه القواعد والإشارات،وإلا اعتبروه غير محقق أو ردريء جدا، وهو ما كان يعتبره شاكر تشويها لوجه الكتاب العربي بسيل جارف من غثاء وجفاء وقذر! أما ما كانت تستغرقه عملية التحقيق من جهد واهتمام لا ينتهي حتى مع طبع الكتاب، فيمكن أن نستشفه من حديث شاكر عن قصة تحقيقه لكتاب طبقات الشعراء لابن سلام الجمحي، يقول شاكر: عام ( 1925) عاد السيد أمين الخانجي من رحلته إلى العراق وغيره من بلاد العرب، وقد جمع من نوادر المخطوطات شيئا لا يقدر بثمن، وكان بينها صناديق فيها أوراق شتى "دشت"، وذات يوم أقبلت عليه في دكانه، فإذا به يخرج لي ورقة حائلة اللون، وسألني: أتعرف هذا؟ فما كدت أقرأ أسطرا حتى عرفت أنها من كتاب طبقات الشعراء.. لأبي عبد الله محمد بن سلام الجمحي، وكنت حديث عهد بقراءة الكتاب، فاستطرت فرحا بما عرفت، وقمنا معا إلى الصناديق المبعثرة والأوراق، نفرزها ورقة ورقة يوما بعد يوم، حتى جمعنا من أوراق كتاب الطبقات قدرا عظيما، فلما فرغنا، أمرني رحمه الله أن آخذها فأرتبها وأنقلها، مخافة عليها من مثل ما كانت فيه، ومن عوادي البلى عليها، إذ كانت عتيقة الورق، وفعلت مقصرا متراخيا، فلم أتم نقلها، وبقيت بقية من أوراق المخطوطة لم أنقلها، وطال الزمن، فسألني السيد أمين رحمه الله، أن أرد إليه الأم العتيقة قبل تمام نقلها، فرددتها إليه، ولم أخبره بما كان مني من التقصير والتراخي. ودارت بي الأيام، وفارقت مصر سنة (1928) ثم عدت إليها وقد فتر ما بيني وبين الكتب زمنا طال وامتد –أحسب أن هذا الفتور عن النظر في في كتابة الكتب لا قراءتها- ثم لقيت أمينا رحمه الله، فأخذ يستحثني أن أعيد النظر في كتاب الطبقات، حتى أستطيع أن أعده للنشر، فتراخيت ما تراخيت وهو يظن أني كنت قد فرغت من نقلها، وأظن أنا أن النسخة لم تزل في حوزته، ثم قضى أمين نحبه يوم الجمعة (7 يوليو 1939) وقد جاوز السبعين من عمره، ولم يخبرني أين استقرت الأم العتيقة، ولم سألت بعض ولده عنها، لم أجد عند أحد منهم خبرا عنها، ثم بدأت أبحث عنها في مكانها من دور الكتب العامة والخاصة فلم أعثر عليها حيث ظنت، وبقيت نسختي التي نقلتها حبيسة في خزانة كتبي هذا الدهر الطويل، حتى دعاني أخي الأكبر أحمد محمد شاكر إلى نشر هذه النسخة الناقصة، فاستجبت له، ثم بدأت فشرحت كتاب الطبقات، وتولت دار المعارف طبعه… وكان الفراغ عصر الأربعاء 10 سبتمبر 1952… لكن رغم هذه السنوات الطويلة بين عامي 1929 و1952، لم تنته جهود شاكر تجاه كتاب الطبقات.. يقول شاكر: بعد ظهور الكتاب في الأسواق، وبعد إهدائي نسخة منه إلى شيخنا وأستاذنا عبد العزيز الميمني الراجكوتي… مضى زمن طويل، ثم جاءتني منه رسالة يذكر فيها أنه قرأ في إحدى مجلات المستشرقين مقالة للأستاذ آربري المستشرق، فيها قراءة جديدة لكتاب الطبقات توشك أن تكون شبيهة بنسختي التي نشرتها من كتاب ابن سلام، فلما اطلعت على المجلة أيقنت أن هذه النسخة التي أشار إليها آربري هي نسختي التي فقدت خبرها بموت أمين الخانجي، فبادرت وراسلت صديقنا الدكتور محمد رشاد سالم، وكان يومئذ تلميذا لآربري في إنجلترا، وسألته أن يوافيني منها بصورة، وعلمت أنها في مكتبة تشستربتي، فجاءتني المصورة، فإذا هي نسختي، وعليها خطي وتوقيعي!