علي الرغم من الجهود العديدة التي بذلت خلال القرنين الماضيين في تحقيق التراث ونشره، فإن ما صدر من كتب عن هذا العلم أو هذا الفن لا يتناسب مع تاريخنا القديم في الرواية والمعرفة والتدوين. من هذه الكتب: - «تحقيق النصوص ونشرها» للأستاذ عبدالسلام هارون الذي صدر عن مكتبة الخانجي بالقاهرة في 1954، وأعيد طبعه حتي سنة 1976 أربع مرات. - «مناهج تحقيق التراث بين القدامي والمحدثين» للدكتور رمضان عبدالتواب وصدر عن المكتبة نفسها في 1985. - «أصول نقد النصوص ونشر الكتب» للمستشرق الألماني برجستر اسر، أعده وقدمه الدكتور محمد حمدي البكري، وصدرت طبعته الأولي عن مركز تحقيق التراث بدار الكتب والوثائق القومية في 1969، وأعاد المركز طبعه مرة واحدة في 1995. وتحقيق التراث ونشره لا يقتصر علي المخطوطات، التي كتبت قبل عصر المطبعة، وإنما يشمل إلي جانبها الكتب القديمة التي نفدت من الأسواق، أو نشرت بصورة مشوهة أو غير دقيقة تستحق التحقيق وإعادة النشر، كما حدث مع ديوان الشاعر إبراهيم ناجي الذي جمع كل شعره المنشور والمخطوط، ثم تبين بعد طبع الديوان أن جزءا كاملا من المخطوطات التي وجدت في درج مكتب ناجي ليست له، بل للشاعر كمال نشأت الذي كان قد أودع مجموعة من أشعاره المخطوطة لدي ناجي لكي يكتب مقدمة لها. ورغم الفارق البين بين شعر كل من الشاعرين في اللغة والأسلوب والرؤية للحياة والمرأة، فلم تلتفت اللجنة التي كلفت بنشر ديوان ناجي، وتضم الدكتور أحمد هيكل والشاعر صالح جودت، إلي هذا الفرق الواضح، الذي يعد بين الشعراء والكتاب أساس التحقيق الذي يميز بينهم، مستفيدا فيه من النقد الأدبي، ومن التاريخ والجغرافيا، وعلم النفس، والخطوط، لأنه بغير هذه المعارف، وبغير الخبرة، فإن المحقق يجد نفسه في متاهة، لا يعرف شرقا من غرب، أو شمالا من جنوب، كما لا يعرف كيف يقرأ النصوص، وكيف يميز المنحول منها، أو يستكمل فجواتها والساقط أو المطموس منها، ويفتقد بالتالي القدرة اللازمة علي شرح ما غمض منها، أو بيان ما فيها من أخطاء، ولا يملك القدرة كذلك علي الفصل في هذه النصوص بين ما هو أصلي من المقتبس أو الدخيل. ولكي تتكامل معرفة المحقق بالنص أو بالأثر، يتعين أن يكون عارفا بالحالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسة التي وضع في ظلها، وعليه أن يعرف القارئ بكل الأسماء التي ترد فيه، سواء كانت أسماء أعلام أو أسماء أماكن أو مدارس أو اتجاهات أو مذاهب أو وقائع وغيرها، حتي يضاء النص بالإطار العام الذي صدر فيه. ومن ناحية أخري يجب أن يكون جهد المحقق واضحا، ينسب إليه، لئلا يختلط شيء من عمله بالمتن الأصلي للمخطوط أو الكتاب. ذلك أن المتن يجب أن ينشر علي علاته، كما وضع بالضبط، لأنه ليس من حق أحد أن يعدله، خاصة بعد رحيل صاحبه، بمعني أنه إن وجد علي سبيل المثال خطأ من أي نوع، فإنه يوضع فقط بين قوسين، ويذكر في الهامش التصحيح الذي يراه المحقق، موقعا باسمه، أو بالحروف الأولي من هذا الاسم. ولا شك أن المؤلفين الذين لهم كتب أقدر من غيرهم علي التحقيق، لأنهم يعرفون مضايق الكتابة. ولأن نسخ المخطوط الواحد قد تختلف فيما بينها، بسبب حرص المؤلفين علي إضافة أو تعديل أو حذف بعض ما فيه، بعد الانتهاء من تأليفه، أو بسبب تدخل النساخ الذين يطمعون في إغراء القراء أو التعريض بالسلطة، فعلي المحققين أن يجمعوا تحت أيديهم، بادئ ذي بدء، كل ما يمكن جمعه من مخطوطات أو نسخ النص الواحد، والموازنة أو المفاضلة بينها، واعتبار أقدمها النسخة الأم، المرشحة للتحقيق، لأنها الأقرب إلي حياة المؤلف، ما لم تكن هناك اعتبارات أخري مؤثرة في الاختيار، يكون المحقق علي وعي بها. أما إذا لم يكن هناك في متناول المحقق سوي مخطوط واحد، فعليه أن يعرف جيدا.. هل هذه النسخة بخط المؤلف، أم أنها بخط الناسخ، وفي أي تاريخ كُتب فيه النص أو نسخ، علما بأن بعض النساخ كانوا يجيدون تقليد الخطوط، للإيهام بأنه خط المؤلف ليرفع من قيمته، وهو ليس كذلك. ولا يسمح بتقديم تحقيق آخر لنص محقق إلا إذا تضمن إضافة لم تكن في النص السابق، تقتضي تحقيقا جديدا. وتعتبر المخطوطات المكتوبة بخط المؤلف أفضل النسخ، خاصة إذا ظهرت في حياته، مثلما يعتبر أقدم النسخ أفضلها، وقد لا تحتاج مثل هذه المخطوطات إلي جهد كبير، لأن المؤلف عادة ما يكون حريصا علي عمله. وعلي المحقق أن يوضح في المقدمة منهجه في التحقيق، وما تجشمه من أجل جمع المعارف عن المؤلف والنص والكتب والمظان التي رجع إليها، حتي يصبح القارئ علي بينة بكل المشاكل التي تواجه المحقق. وإيراد المراجع بالغ الأهمية لأنه يرفع من الحاسة النقدية عند القارئ، والقارئ المدرب يستطيع من تصفح هذه الحقائق أن يعرف مدي علم المحقق بموضوعه، ويحدد قيمته. وهناك مصاعب جمة يواجهها من يتصدون لتحقيق المخطوطات، حين يكون النص تالفا متهرئا، به ثقوب أو متآكل الأطراف، أو تكون الورقة الأولي أو الأخيرة منزوعة من المخطوط، بقصد أو بغير قصد، فيضيع اسم المؤلف في الأولي واسم الناسخ في الأخيرة، وكلاهما لا غني عنه. إلا أن موضوع المخطوط وأسلوبه وخطه ونوع ورقه ولونه وملمسه ومداده والقلم الذي كتب به يمكن أن يكون هاديا للمحقق، إذا سلمت له أدوات هذه المهنة، وتوفر له الذكاء الذي يخترق الظاهر، ولا يقف عند السطح، معتمدا علي الدليل النقلي لا الاستقراء. ولأهمية المخطوطات يوجد في القاهرة والكويت والعراق ودمشق والمغرب والإمارات وتركيا وغيرها معاهد ومراكز لها، تتبع جامعة الدول العربية أو المجالس الوطنية للثقافة والفنون، أو المتاحف ودور الكتب العامة والخاصة. وكما أنه في كل حرفة أو مهنة الجيد وغير الجيد، فإنه في عالم المحققين هناك من يطمئن إليه القارئ، ويكتسب ثقته في المنتج الذي يقدمه، وهناك من يفتقد هذه الثقة. بتعبير آخر هناك من يحقق المخطوط تحقيقا علميا دقيقا، ومن يحقق المخطوط بطريقة الكتاتيب. وإذاكانت مصر قد بدأت مع ثورة الخامس والعشرين من يناير عصرا جديدا من العلم والمعرفة والإبداع، فإن الثقافة المصرية التي مهدت لهذه الثورة، لن تتكامل إلا حين نعتبر تحقيق التراث ونشره ركنا أساسيا في ثقافة العصر، لا يقل عن التأليف والترجمة. وتراثنا المضيء الذي ظل مطويا أو محجوبا لأنه ضد النظم الظالمة، في الأدب والفلسفة والعلم، بحاجة إلي جيل جديد من المنقبين والباحثين والمحققين، استجابة للمرحلة الجديدة بعد الثورة.