بعد وصول الديكتاتور إلى السلطة سواء من خلال الانقلاب العسكرى، أو التمرد، أو القتل، أو التخريب، أو التوريث، أو حتى الانتخابات، يواجه تحدى البقاء على كرسى الحكم والاحتفاظ بحكمه. ويتطلب الاحتفاظ بالسلطة مهارات تختلف كلية عن تلك المطلوبة للوصول إلى السلطة. يصف الناقد والروائى الإيطالى إيتالو كالفينو المحنة التى تكمن بانتظار من يصلون إلى السلطة قائلا: "بمجرد أن يتم تتويجك، فإن العرش هو الكرسى الذى عليك أن تظل جالسا عليه، ليل نهار، دونما حركة. ظلت حياتك السابقة برمتها فترة انتظار لحين أن تصبح ملكا. والآن، وقد أصبحت ملكا، فما عليك إلا تولى السلطة. وما تولى السلطة إن لم يكن هو هذا الانتظار الطويل. انتظار اللحظة التى سيتم فيها الإطاحة بك، ويكون عليك توديع العرش، والصولجان، والتاج، ورأسك". إذن، ماذا ينبغى على الديكتاتور الجديد فعله للحفاظ على رأسه؟ فى كتاب "السياسة" لأرسطو، قسم ممتع عن الطغيان، كتب فيه أرسطو بأسلوب مكيافيلى ساخر ماذا ينبغى للطاغية أو الديكتاتور أن يفعل من وسائل ليظل محتفظا بقوته. وأرسطو أو أرسطوطاليس هو ذلك الفيلسوف اليونانى الكبير الذى عاش فى القرن الرابع قبل الميلاد، وتعلم على يد أفلاطون، وعلم الإسكندر الأكبر، وذاعت شهرته فى كل العصور، وغلب تأثيره كل الفلاسفة الآخرين – حتى أفلاطون – بشكل لا لبس فيه، لدرجة أنه فى العصور الوسطى كان يوصف بالفيلسوف فحسب. يقول أرسطو فى كتابه إن الهدف والغاية النهائية للديكتاتور، لكى يحتفظ بعرشه، هى تدمير روح المواطنين، وزرع الشك وانعدام الثقة فيما بينهم، وجعلهم عاجزين عن فعل أى شىء وعمل أى شىء. كذلك تعويد الناس على الذل والهوان، والعيش بلا كرامة، بحيث يسهل عليه أن يحكمهم. لذلك يمنع الديكتاتور كل نظام تعليمى قد يؤدى بالمتعلم إلى تكوين رأى مناهض للحكومة، ويحجب كل ما يعمل على تنوير العقول أو كل ما يبث الشجاعة والثقة بالنفس، ويمنع المواطنين من التجمع لأغراض ثقافية، ويتخذ كافة السبل التى تغرس فى المواطن، فى نهاية الأمر، الشعور بأنه غريب عن وطنه. ويحاول الديكتاتور أن يقضى على البارزين من الرجال، وأصحاب العقول الناضجة، واستئصال كل من تفوق أو حاول أن يرفع رأسه، ويضع الخطط السرية والعلنية للقضاء عليهم أو الايقاع بهم وتشريدهم، كخصوم سياسيين مناهضين للحكم، ذلك لأنه يعلم تمام العلم أن الثورات ضده تخرج من صفوف هؤلاء الرجال، لأنهم لا يقبلون أن يحكموا كما يحكم العبيد. ومن عادة الديكتاتور أن يكره الرجال الشرفاء من أصحاب الكرامة والروح العالية أو من أصحاب الشخصية المستقلة، ذلك لأن الديكتاتور يدعى أنه يحتكر لنفسه هذه الخصال الحميدة، ومن ثم يشعر أن أى إنسان شريف صاحب كرامة إنما يزاحمه فى السمو، أو يحرمه من التفوق، وذلك اعتداء على سيادته. ومن هنا فإن الديكتاتور يختار الفاسدين والمرتشين والمنافقين من البشر فى نظام حكمه ليكونوا حلفاء له، يعطيهم وظائف ومناصب ومرتبات طائلة وأمتيازات أخرى عديدة، لم يكن لهم أن يحلموا بعُشرها. فهم عبيد النفاق والتملق، والديكتاتور تسره المداهنة والموالسة، وينتشى من النفاق، ويريد دائما من يتملقه. ولن تجد إنسانا حرا شريفا يقدم على مثل هذا العمل، فالرجل الحر يمكن أن يكون صديقا، لكنه لا يمكن تحت أى ظرف من الظروف أن يكون مداهنا أو متملقا، أما الرجل الوضيع فليس لديه الاستعداد للقيام بهذا الدور فحسب، وإنما يسعى إليه بكل فخر. ويجتهد الديكتاتور حتى تكون لديه معلومات دقيقة حول كل ما يفعله المواطنون أو يقولونه. وهذا يعنى أن تكون هناك جواسيس أو شرطة سرية منتشرة فى أنحاء البلاد، لأن الناس بهذه الطريقة سيقللون من صراحتهم إذا ما تكلموا عن نظام الحكم، أو يكتمون آراءهم بداخلهم لأنهم يخشون الجواسيس، ويهابون الأعين والآذان والأذرع المنتشرة حولهم، لأنهم إن تجاسروا وتحدثوا انكشف أمرهم. ويعتمد الديكتاتور أيضا على إغراء المواطنين أن يشى بعضهم بالبعض الآخر، فتنعدم الثقة بينهم، ويدب الخلاف بين الصديق والصديق، وبين الغنى والفقير. وهكذا فإن الديكتاتور يبذر بذور الشقاق وانعدام الثقة بين المواطنين، ويثير حقد الطبقات السفلى على الطبقات العليا التى يجتهد أن يفرق بينها. كما يسعى الديكتاتور إلى جعل المواطنين دائما فى حالة انشغال كامل بالمشروعات العظيمة التى يقيمها، كما فعل الفراعنة فى مصر حين شيدوا الأهرامات والمعابد الهائلة، فلم يكن لجميع هذه الأعمال سوى هدف واحد هو شغل فراغ المصريين حتى لا يجدوا وقتا لشىء آخر. وقد يلجأ الديكتاتور إلى إشعال الحروب، بهدف أن ينشغل المواطنون بصفة مستمرة، ويظلوا يحتاجون إلى قائد على الدوام. وأخيرا، هناك وسيلة فعالة أخرى للديكتاتور ليحتفظ بحكمه وهى إفقار المواطنين، حتى لا تكلفه إجراءات الأمن شيئا من جهة، وحتى ينشغل المواطنون بالبحث عن قوت يومهم من جهة أخرى، فلا يجدون من الوقت ما يتمكنون فيه من التآمر عليه. كما أن أرسطو يضيف لنفس الغرض فرض الضرائب ورفع الأسعار، والتى تؤدى إلى النتيجة نفسها. ويعود أرسطو فيلخص هذه الوسائل فى ثلاث غايات رئيسية يتطلع الديكتاتور إلى تحقيقها: الغاية الأولى: تدمير روح المواطن، لأن الديكتاتور يعلم علم اليقين أن صاحب الروح الفقيرة، الذليل الخانع، لن يتآمر عليه على الإطلاق. الغاية الثانية: ارتياب المواطنين بعضهم من بعض، إذ إنه لا يمكن القضاء على الديكتاتور إلا إذا اتحد المواطنون، وتشاوروا، ووثق كل منهم بالآخر. الغاية الثالثة: عجز المواطنين عجزا تاما عن أى فعل، وبالتالى لن يحاول أحد أن يطيح بالديكتاتور، ويصبح السعى إلى القضاء عليه ضربا من المحال. يمكننا بسهولة أن نلاحظ أن الوسائل السابقة، التى تمثل عند أرسطو الطريقة التى يلجأ إليها الديكتاتور للمحافظة على حكمه، كلها معروفة ومألوفة لنا فى العالم العربى. فجميع هذه الوسائل قد خبرناها ولمسناها وعشنا تفاصيلها طوال تاريخنا القديم والحديث، وما نزال نعيش فيها حتى يومنا الحاضر، حتى أن المواطن العربى عندما يطلع عليها يشعر بأن أرسطو يصف له ما يدور فى مجتمعه، خاصة النظم العسكرية المستبدة التى رفعت شعارات وطنية زائفة لتضحك بها على الجماهير، وتستميل مشاعر العامة وعواطف البسطاء.