كانت البداية بقطع 30 بالمائة من رواتب موظفي السلطة في قطاع غزة، تبعتها تصريحات فلسطينية بتشديد الإجراءات ضد غزة، ثم تصريح ترامب بوصف حماس حركة إرهابية، وصولًا إلى إعلان العمادي من داخل غزة أن الأوضاع ذاهبة للأسوأ، وعدم استعداده كالعادة بتوفير دعم للكهرباء أو لأي مشاريع حياتية في القطاع، تبع ذلك قيام قطر بطرد بعض الشخصيات السياسية المرموقة في حماس والمقيمين فيها، ومنهم القيادي البارز صالح العاروري الذي انتقل إلى ماليزيا، ومؤخرًا قيام دول الخليج بإعلان مقاطعة لقطر، والتهمة تمويل الإرهاب وزعزعة استقرار الدول. هذا هو السيناريو الجديد الذي ابتدعته الإدارة الأمريكية الجديدة ممثلة برئيسها ترمب، وهذه هي السياسة الأمريكية التي تخالف سابقتها في تعاملها مع الإسلام السياسي والحركات الإسلامية، ابتداءً من الإخوان المسلمين في مصر وانتهاءً بحماس في غزة. قطر تعتبر الداعم الأول الذي كان ينقّط في حلق حماس كلّما جفّت منابع الحياة لديها، وعلى ميدان السرايا في قطاع غزة وُضعت صورة ملكهم تحت عبارة «القدس تنتظر الرجال»، ولكن أي رجال؟ اليوم وعلى المكشوف صرّح سفير قطر لدى الولاياتالمتحدةالأمريكية، في إطار دفاعه عن وصف دولته بالإرهاب حول جزئية حماس، بأن قطر كانت تدعم حماس وتقيم مشاريع إعادة الإعمار بناءً على تنسيق متناهي بينها وبين الإدارة الأمريكية، وبينها وبين دولة الاحتلال، وهذا ما يدفعنا للتساؤل: لماذا كانت أمريكا وإسرائيل توافقان على الدعم القطري لحماس؟ هل إسرائيل ذات نظام إنساني لدرجة أن تدع الدعم يصل لعدوّها وتغض بصرها عنه؟ أم أن أمريكا حزنت على مواطني قطاع غزة وأحبت أن تقوم قطر بمشاريع تساعدهم على الحصار الذي تفرضه أصلًا إسرائيل؟ الإجابة من وجهة نظري واضحة ومحددة، الحصار مفروض على حماس لإرغامها على الدخول في العملية السياسية التي ترتئيها إسرائيل، ممثلة بشروط خضوع حماس وحل منظومتها العسكرية والاعتراف بإسرائيل وإلى آخره؛ هذا من جهة، والدعم القطري بالمقابل لم يكن يومًا من أجل فلسطين أو من أجل الوطن العربي أو من أجل القدس والصراع الأزلي مع بني صهيون، بل لتعزيز صمود حماس أمام ضغوطات السلطة التي تمارسها عليها من أجل رضوخها لتفاهمات إنهاء الانقسام، وهذا بدوره سيطيل أمد الانقسام ويجعل حماس لا تلتفت ل«أبو مازن» وضغوطه، فهناك من يطعمها ويبني لها ويوفر لها كهرباء، بالحدود التي لا تدع الشعب ينفجر في وجه حماس، هذا أولًا.. ثانيًا، وهو إبقاء حماس في حالة الردع الإسرائيلية المنشودة، وعدم انجرارها إلى مواجهة عسكرية مع إسرائيل جراء الضغط الداخلي، وإذا دققنا نجد أن هذين الهدفين هما هدفين إسرائيليين بنسبة مائة بالمائة. للأسف إسرائيل استطاعت التحكّم بنا بشكل محكم، تحكّمت بمصالحتنا وانقسامنا، وتحكمت بإبقاء غزة تحت حكم حماس وتعزيز حالة التشتت والفرقة الفلسطينية، والأداة كانت قطر، والآن انتهى هذا الدور الذي لعبته قطر، ومرحلة الإسلام السياسي التي انتهجتها إدارة أوباما قد ولّت، وثمن النهاية كانت المليارات السعودية التي دفعتها قبل أسابيع. لا أبالغ إن قلت بأن حماس تمرّ بأصعب حالة سياسية مُذ أن تولت زمام الحكم في قطاع غزة عام 2007، فاليوم هي ليست بصدد مواجهة عسكرية عابرة، أو عاصفة سياسية معتادة، بل هي بصدد إرادة عربية أمريكية دولية، لا تريد لها وجودًا ولا حكمًا على أرض قطاع غزة. غزة ليست محور الأزمة الخليجية، وليست محور الكون، وهي في هذه المعادلة جزء من عملية كبيرة تجري، وتغييرات إقليمية سُميت بصفقة القرن كما أذكر، وهذه هي الكارثة، أننا في حال عدم إيجاد وسيلة عقلانية وسياسية للخروج من الأزمة، ستضيع غزة بين الأرجل، أو كما يُقال «حتروح فرق عملة». الخيارات ليست كثيرة، والبدائل التي كانت تتوفر لدى حماس في السابق لم تعد موجودة الآن، واللون الرمادي أصبح جزءًا من الماضي، فاليوم إما أن تختار حماس الدخول في العملية السياسية، والانخراط في منظمة التحرير الفلسطينية، وتوافق على شروط إنهاء الانقسام التي حددها أبو مازن، وبذلك تكون أمنت شر ما يُحاك لها من شرور أمريكية وإسرائيلية وعربية، وإما أن تظل حماس في محور الممانعة والرفض بجانب قطر وإيران، وهذا ما سيجر لغزة ما لم يكن متوقعًا ولا مستطاعًا، وجميعنا شاهد محاولات حماس الهروب من الحالة، عن طريق ابتداعها خيارًا ثالثًا بإلقاء الشباب الأعزل على السياج الفاصل مع دولة الكيان لكسر الحصار، وهو خيار لم ولن يؤتي أي نتيجة تريدها حماس، ولن يُثمر سوى مزيد من الضحايا الأبرياء. انتهى وقت المناورات وأتت مرحلة كسر العظم، فإما أن تكون أو لا تكون، آمل من الله أن تكون غزة بمأمن ومعزل عن كل هذه الفوضى القادمة، وهذا ما هو مرهون بيد حماس الآن وبيد قادتها.