التحرك الأمريكي الساعي بسرعة كبيرة قياسا إلى الوقت الذي استغرقه الإعداد له والشروع فيه، نحو الحضور في البادية السورية جاء بناءً على مجمل النتائج والتوصيات التي توصلت لها كبرى مراكز البحث الاستراتيجي وبنوك الأفكار المعاوِنة للإدارة السياسية هناك، والتي تساهم جوهرياً في رسم السياسات المُراد تطبيقها لتحقيق المصالح الأمريكية، حيث منذ اقتراب ترامب من الوصول للبيت الأبيض عمدت تلك المراكز والمؤسسات ليس فقط لمواكبة المستجدات على الساحة السورية والإنطلاق منها نحو تحديث وتطوير الرؤية الاستراتيجية لهذا الميدان، بل بطبيعة الحال إلى مواكبة ما كان يحدث وقتها من تشكيل لإدارة جديدة للبيت الأبيض لديها رؤية مختلفة للمسألة السورية عن رؤية سابقتها أي إدارة أوباما، ولماهية المصالح الأمريكية في سورياوالعراق وكيفية تحقيقها، بالفعل انطلقت العديد من المراكز المخضرمة، المرتبطة بمؤسسات الدولة الأمريكية، إلى إعادة قراءة الوضع السوري والعراقي في ضوء ما تم التوافق حوله داخل كلا من مؤسسة الحكم والبحث الاستراتيجي الأمريكيتين، من كون الاستراتيجية الأمريكية القائمة – وقتها وحتى وقت قريب من الآن – في سورياوالعراق غير ناجحة وأنه يجب إعادة "تشخيص" المصلحة الأمريكية هناك، ومن ثم فإن الوقت قد حان لتغيير في الرؤية وفي الفعل على الأرض، بموازاة ذلك تم قصف مطار الشعيرات العسكري السوري أمريكياً كخطوة ثانوية لا يمكن من خلالها وحدها قراءة التوجه الأمريكي الجديد، في ظل تضارب كبير في تصريحات المسؤولين الأمريكيين وصعوبة عملية لكامل الموقف في سوريا، بمكوناته المتعددة وتعقيداته وكم هائل من التشابكات بين أطرافه داخل الأرض السورية وخارجها، إجمالاً عبّرت الضربة الأمريكية – ذات الأثر الإعلامي المحض وغير الجوهري على الأرض – عن انطلاق "توافق" أكبر وشِبه كامل بين مؤسستي الرئاسة ووزارة الحرب الأمريكية بخصوص سوريا من ناحية ، وعن تمهيد موجّه (بالتخويف والصدمة) لجميع الأطراف في المعادلة السورية للمشروع الأمريكي الجديد في سوريا من ناحية أخرى. منطلقات المشروع الأمريكي للبادية السورية 1- ضرب المناطق الخلفية لداعش في إطار القضاء عليها مع ترقب الطرد الكامل لداعش من محافظة الرقة (شمال البادية السورية) عن طريق قوات سوريا الديموقراطية الكردية الأمريكية، ومع كون ذلك سيفتح الباب لتسهيل طردها من دير الزور (شرق البادية) أيضا، لن يمكن السيطرة على فلول التنظيم الهاربة وضمان القضاء عليها في ظل اتساع الظهير الصحراوي للمحافظتين وانفتاحه على الأراضي العراقية، إلا بالسيطرة على كامل المنطقة أمريكياً طبعا، وهنا تتجلى أهمية مدينتي "القائم" العراقية و"البو كمال" السورية ، الأخيرة باتت تحت السيطرة النارية للقوات الأمريكية منذ أيام وحتى اللحظة وسيكفل طرد داعش منها وضع نقطة مراقبة وسيطرة على هروبها المرتقَب من دير الزور، فلن يعني شيئاً التركيز على نقاط القوة الدفاعية الداعشية دون توجيه القوة الأمريكية نحو الظهير الخلفي لتلك القوى. 2- المتغير العراقي من المنتظر إقامة الانتخابات التشريعية في العراق العام المقبل 2018 التي غالباً ما ستسفر عن تولي رئيس وزراء مقرب من إيران، في ظل اصطفاف عراقي قائم في الداخل نحو تحقيق ذلك، ترافق مع نجاح مطرد لنموذج التخلي الحاسم عن وعدم التعويل على دور "التحالف الدولي" الأمريكي في القضاء على داعش ، وطردها من الموصل وصحراء الأنبار ، مع التغير المترقَب في الإدارة العراقية يتوقع الأمريكيون وصول الأمر إلى مواجهة سياسية بين الطرفين تقضي بإيقاف عمل التحالف هناك ، أو مغادرة القوات الأمريكية التي كانت قد عادت للعراق في منتصف عام 2014 بعد انسحابها آخر عام 2011 ، مع أساس جاهز لذلك وهو النجاح العراقي المنجز لهزيمة داعش بكفاءة ، وبالتالي ثمة أهمية عاجلة لضمان حضور أمريكي في البادية السورية المترامي امتدادها نحو قلب العراق. 3- تعويض غض الطرف الأمريكي عن فصائل القاعدة يتمتع تنظيم القاعدة بوجود عسكري كبير على الأرض في سوريا، مع حاضنة شعبية معتبرة وآخذة في الاتساع داخل دائرة "السنّة" السوريين استطاع إقامتها بالتغلغل وسط الدائرة الأكبر منهم ، لفترة كبيرة خلال فصول الحرب على سوريا تلقت فصائل مرتبطة بالقاعدة دعماً أمريكياً بالسلاح والتخطيط ، إلا أنها أعلنت عن نفسها وانتمائها الحقيقي مع الفرز الكبير الذي حدث بعد تصنيف جبهة النصرة أمريكياً وعالمياً كتنظيم إرهابي وتكتلت مع النصرة في جبهة "هيئة تحرير الشام" ، مع استعادة الدولة السورية لمدينة حلب ومن ثم إعلان الهدنة الكبيرة التي رسمتها روسيا ، مما مثّل تغيراً كبيراً في المشهد لصالح الدولة السورية وروسيا ، انخرطت تلك الفصائل في إعادة استجماع قواها وتصليب جبهتها بعيداً عن "الفصائل المعتدلة" التي قبلت الهدنة وذهبت إلى مؤتمر أستانة ، وبالتالي تدرك الإدارة الأمريكية أن الاكتفاء بالتركيز على محاربة داعش (الآخذة في الاحتضار بالفعل منذ فترة) قد يتيح الفرصة لتلك الفصائل للمزيد من القوة والنمو تمهيداً لحلولها محل داعش كقوة رئيسية في سوريا ، نعم تتمتع تلك الفصائل بمناطق نفوذ محدودة في البادية السورية قياساً إلى مساحتها الشاسعة ، تتركز في ريف دمشق وريف حمص الشرقي ، لكنه نفوذ متماسك إلى حد كبير ، والأخطر هو تمتعها خارج البادية بمرتكز ضخم في إدلب تعيد تجميع قواها فيه . 4- الحاجة إلى مواجهة النفوذين الإيراني والروسي مع الحضور الروسي الكثيف بحرياً على الساحل السوري وفي قواعد جوية بالداخل ، وحضور إيراني مصحوب بتطور في الإمكانات والخبرات والتخطيط آخذ في التصاعد وثمة توافق كاسح حول خطورته داخل الإدارة الأمريكية ، انتقل التهديد للمصالح الأمريكية هناك إلى مرحلة جديدة تستطيع فيها القوتان ممارسة نفوذ مؤثر (وتهديد بالنسبة لأمريكا) على ثلاثة من أصل سبعة نقاط حيوية رئيسية للنقل التجاري البحري في العالم ، وأقربهم إلى أكثر مناطق العالم كثافة في انتاج واحتياطي النفط ، أي مضيق باب المندب (يعبره حوالي 4 مليون برميل في اليوم) وقناة السويس (يعبرها حوالي 3.5 مليون) ، ومضيق هرمز الأهم على الإطلاق في العالم ، ومنه يمر 30 % من نفط العالم بعدد بلغ 17 مليون برميل في اليوم منهم حوالي 6 ملايين من المملكة السعودية وحدها ، يجمع الخبراء في واشنطون على أن هذا التهديد يمتد أثره لخمس سنوات من الآن ، ومن ثم فمن البديهي أن تسعى الإدارة الأمريكية إلى تأمين نقطة ارتكاز بالغة القُرب من مركز هذا التهديد ، وقابلة للتفعيل والتحرك والتدخل السريع في أي وقت وفي زمن قياسي ، فضلاً عن حقيقة أن غرب سوريا قد بات تحت سيطرة الدولة السورية بالكامل مع عازل لبناني من قوات حزب الله لحدودها الغربية مع لبنان ، وشمالها يتم التنسيق أمريكياً بشأنه مع الأكراد والأتراك ، إذن فالشرق الملاصق للحدود العراقيةوالاردنية عليه أن يكون أمريكياً ، على النحو الذي سيأتي تبيانه في أهداف المشروع . أهداف المشروع الأمريكي للبادية السورية 1- إقامة منطقة آمنة بوضع اليد وسياسة الأمر الواقع جنوب شرق سوريا ، ستكون مدينة البو كمال الحدودية مع العراق منطلقها على الأرجح ، تشمل طول وادي نهر الفرات داخل سوريا وظهيره الواسع الممتد جنوباً نحو الاردن ، تكون تعويضاً احتياطياً لأي خلل في حجم القوات الأمريكية في العراق ، وفيها يتم تجميع وتجهيز وتسليح اداة رئيسية للمشروع سيأتي ذكرها في الهدف التالي ، وتكفل عزل داعش وحصرها تكثيفاً لضربها ، والتمهيد للضغط على السوريين والروس من أجل منطقة حظر جوي في الجنوب حيث محافظة درعا ، تحت شعار حماية المدنيين هناك باستخدام مناطق آمنة ، ومن أجل تحقيق وقف لإطلاق النار بين الجيش العربي السوري والفصائل المدعومة أمريكياً العاملة هناك والمنخرطة بالفعل في محاربة داعش . 2- إقامة شريك "عربي" جديد من العناصر السنيّة المحلية على الأرض السورية ، يختص بمحاربة داعش والقاعدة بتركيز ويتكامل مع الشريك الكردي العامل بالشمال (قوات سوريا الديموقراطية) ، وذلك بالتعاون مع شركاء آخرين موثوقين تشير الوقائع إلى كون الاردن في طليعتهم ، بصفتها مركز الانطلاق والإمداد الرئيس للخطوات الاولى للمشروع أي توسعة وتفعيل قاعدة التنف القريبة من الحدود السورية الاردنية ثم الإنزال الأمريكي الأخير في البو كمال ، فضلاً عن وجود غرفة عمليات الموك الجاهزة بالفعل في الاردن ، مع دور بريطاني بارز في تسليح وتدريب أدوات المشروع وهي "الفصائل المعتدلة" ، ومن كل ما سبق جاء التوجيه المباشر المُعلَن الشهر الماضي من المخابرات المركزية الأمريكية إلى الأخيرة التابعة لها بإلزامهم بالتجمع في كيان موحّد تحت قيادة واحدة ، يتم إعداده لمحاربة داعش وفصائل القاعدة والقضاء عليهما ، وإقامة كتلة وازنة من مناطق النفوذ لدى "المعتدلين" تطغى على تلك الخاصة بفصائل القاعدة ، ومع مؤشرات واضحة لاعتماد المرحلة الاولى من المشروع على محاولة إقامة تجمع "جديد" من المقاتلين ، يشير توجيه المخابرات المركزية المعلَن سابق الذكر أن المرحلة الثانية ستشهد اللجوء إلى تجمعات "معتدلة" تعمل مع أمريكا بالفعل . 3- إقامة مرتكز على الأرض للضغط والتدخل السريع في الشأنين الكردي التركي من جانب، والإيراني الروسي من جانب آخر، تمهيداً للقيام بدور فاعل في التقريب بين الأكراد وتركيا ، وتوفير الضمانة للأخيرة بأن الإقليم الفيدرالي الكردي المأمول في الشمال السوري لن يهددها ، وفي مواجهة إيرانوروسيا سيعمل المرتكز على "تصنيع" قوى "سنيّة" مضادة لهما ليست من داعش والقاعدة ، فضلاً عن كونها مضادة ومحاربة للدولة السورية ككارت ضغط وابتزاز أمريكي في مواجهة الأخيرة.