التعليم هو سبب نهضة الأمم ورقيها، حقيقة يعلمها الجميع، ولا أحد يستطيع إنكار فائدة التعليم، إلا أن الرئيس عبد الفتاح السيسى، فى الجلسة الافتتاحية للحوار الشهرى الأول للشباب، تساءل: "بماذا يفيد التعليم فى وطن ضائع؟". لذا سأحاول فى هذا المقال أن أجيب على تساؤل سيادته، أولا بصفتى مدرسا جامعيا، وثانيا بصفتى كاتبا أطلع على بعض تجارب الدول التى نهضت عن طريق التعليم. جميع الدول المتقدمة فى العالم لم تصل إلى ما وصلت إليه إلا عن طريق الاهتمام بالتعليم، وتوفير كافة الإمكانيات اللازمة له، إلا أننا فى مصر أهملنا التعليم طوال الخمسين عاما الماضية، واكتفينا بترديد عبارة "التعليم كالماء والهواء"، دون العمل على تفعيلها حقا، وبالتالى أصبح لدينا تعليم هش، ضعيف، غير قادر على بناء مجتمع حديث. وتطور العالم من حولنا، وظلت مصر على حالها بل وتدهور وضعها أكثر وأكثر، واستطاعت دولا عديدة كانت تشاركنا نفس الحال أن تعبر هذه المرحلة وتتقدم مثل: ماليزياوكوريا الجنوبية، اللتان مرتا بظروف صعبة مشابهة لما مرت به مصر، إلا أنهما نجحتا بفضل الاهتمام بالتعليم فى الانتقال من مصاف الدول النامية أو الضائعة – بتعبير السيد الرئيس – إلى الدول المتقدمة. حينما تولى رئيس وزراء ماليزيا مهاتير محمد منصبه فى عام 1981، كانت ماليزيا دولة فقيرة يعيش ربع سكانها تحت خط الفقر، ولكنه قرر إحداث نقلة حقيقية فى البلاد، فوضع خطة لتطويرها وتنميتها اعتمدت على ثلاثة محاور رئيسية هى: التعليم، والتصنيع، ومحور وحدة البلاد وتجنب الخلافات الدينية والنزاعات الطائفية بين السكان الذين ينقسمون لثلاث فئات رئيسية: الملايو ومعظمهم من المسلمين ويمثلون 60% من السكان، والمواطنون من أصول صينية ويمثلون 25%، والمواطنون من أصول هندية ويمثلون 10%. ومع ذلك نجح مهاتير محمد فى نقل بلاده من دولة زراعية فقيرة تعتمد على تصدير بعض السلع البسيطة مثل: المطاط والقصدير إلى دولة صناعية متقدمة، تغزو منتجاتها الأسواق العالمية. وتمكن خلال اثنين وعشرين عاما قضاها فى السلطة من القضاء على الفقر، ورفع متوسط دخل الفرد من 1250 دولار عام 1982 إلى 8900 دولار عام 2002، وانخفضت نسبة البطالة إلى 3% فقط. كيف حققت ماليزيا ذلك؟ قامت الحكومة الماليزية بزيادة المخصصات المالية للتعليم بحيث وصلت إلى 24% من إجمالى النفقات الحكومية، مع إنفاق هذه المبالغ على بناء المدارس، خاصة المدارس الفنية، ومنح القروض لمواصلة التعليم العالي داخل وخارج البلاد. وجعلت الحكومة التعليم إلزاميا، وأصبح القانون الماليزى يعاقب أولياء الأمور الذين لا يرسلون أطفالهم إلى المدارس. وأنشئت الحكومة أكثر من أربعمائة معهد وكلية تقدم برامج تتواءم مع جامعات أجنبية، وأتاحت الحكومة الفرصة للطلاب لاستكمال دراستهم فى الخارج. وعملت الحكومة على تقوية العلاقة بين الجامعات ومراكز البحوث وبين القطاع الخاص، بحيث سمحت لاستخدام أنشطة البحث العلمى لخدمة الأغراض التجارية، ومن ثم لم تعد الحكومة تقوم بالأنشطة البحثية بمفردها بل يشاركها فى ذلك القطاع الخاص، وبذلك قضت على مشكلة نقص الدعم الحكومى المخصص للبحث العلمى، ووجهت الدولة ما كان ينفق على هذا المجال إلى التعليم. وبالتوازى مع الاهتمام بالتعليم، شجعت ماليزيا الصناعات ذات التقنيات العالية وأولتها عناية خاصة، وأنشئت أكثر من خمسة عشر ألف مشروع صناعى، بإجمالى رأس مال وصل إلى مائتين وعشرين مليار دولار. وبذلك ساهم قطاعى الصناعة والخدمات بنحو 90% من الناتج القومى الإجمالى، وبلغت نسبة صادرات ماليزيا من السلع المصنعة 85% من إجمالى صادراتها، وأنتجت 80% من السيارات التى تسير فى طرقاتها. وبذلك صارت ماليزيا دولة صناعية متقدمة، بعد أن توافر لديها جيل جديد من العمالة الماهرة المتعلمة والمدربة بأحدث الوسائل. وفى عام 2003 تقدم مهاتير محمد باستقالته بكامل إرادته، وأعلن اعتزاله الحياة السياسية تماما وهو فى قمة مجده، ليعطى الفرصة لغيره من أبناء وطنه أن يساهم فى بناء ماليزيا الحديثة. أما كوريا الجنوبية، فكان وضعها حينما بدأت نهضتها الحديثة أسوأ بكثير من وضع ماليزيا، فقد احتلتها اليابان منذ عام 1910، وبعد هزيمة اليابان فى الحرب العالمية الثانية، أصبحت كوريا ضمن غنائم الحرب التى تقاسمتها دول التحالف. وبسبب الحرب الباردة بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتى، اندلعت الحرب الكورية بين الشمال والجنوب فى عام 1950، والتى استمرت ثلاثة أعوام طاحنة، انتهت بتقسيم كوريا رسميا إلى دولتين شمالية وجنوبية. كل هذه الظروف جعلت كوريا الجنوبية واحدة من أفقر دول العالم، لكن هذه الدولة الفقيرة نجحت فى النهوض خلال الخمسين عاما التالية لتصبح واحدة من أغنى الدول فى العالم، وبعد أن كان متوسط دخل الفرد فى عام 1962 حوالى تسعون دولار فقط، أصبح فى عام 2013 أكثر من ثلاثة وثلاثين ألف دولار، وبعد أن كانت واحدة من أكثر دول العالم حصولا على المساعدات المالية، صار الاقتصاد الكورى الجنوبى الثانى عشر على مستوى العالم بناتج قومى إجمالى بلغ 1.6 تريليون دولار. كيف حققت كوريا الجنوبية ذلك؟ إن السر الذى يتفق الكوريون عليه فى نهضتهم هو التفوق الصناعى القائم على الاستثمار فى مجال التعليم. لقد أدركت كوريا الجنوبية أن التعليم هو العامل الحاسم فى تحقيق النجاح الاقتصادى، وأن التعليم هو السبيل الوحيد للمنافسة الدولية. ومن أجل هذا وضعت كوريا الجنوبية كل ثقلها لبناء نظام تعليمى حديث ومتطور، واستطاعت أن تنهض وتبني اقتصادها بقوة، على الرغم من أن بنيتها التحتية كانت قد دمرت أثناء الحرب بشكل شبه كامل، وعلى الرغم من أن 90% من الثروات الطبيعية تتركز فى كوريا الشمالية، لكن ذلك لم يقف عائقا أمام نهضتها، حيث اعتمدت كوريا الجنوبية فى بناء اقتصادها على الصناعات الإلكترونية المتطورة التى لا تتطلب مواد أولية كثيرة، وإنما تتطلب عقول مبتكرة وأيدى عاملة ماهرة ومدربة. أنفقت الحكومة الكورية بسخاء على التعليم، وركزت على البحث العلمى الذى ربطته بالجامعات والمعاهد العلمية المتخصصة. كان عدد الجامعات فى عام 1950 لا يتجاوز عشرين جامعة، واليوم قفز عدد الجامعات إلى أكثر من مائتين وعشرين جامعة، تخدم شعبا لا يتجاوز تعداده خمسين مليون نسمة. وارتفعت المكانة الدولية للجامعات الكورية، حيث دخلت عشر جامعات كورية ضمن التصنيف العالمى لأفضل مائة جامعة فى عام 2008. هذا بالإضافة إلى أن هناك مائتين وعشرين ألف طالب كورى يدرسون بالخارج سنويا، منهم تسعون ألف طالب يدرسون فى أرقى الجامعات الأمريكية. وإذا علمنا أن الحكومة الكورية تخصص حوالى 20% من إجمالى الإنفاق الحكومى لتمويل التعليم، فسوف ندرك حجم الدعم المالى الذى يحظى به قطاع التعليم فى هذه الدولة الصاعدة. ومنذ عام 1968، وبفضل الاهتمام بالتعليم والبحث العلمى، حققت كوريا الجنوبية أرقاما قياسية فى معدلات النمو، وتطورت الصناعة فيها بشكل لافت للنظر، وأصبحت من أهم الدول المصدرة للعديد من المنتجات الهامة على مستوى العالم. وفى عام 2004، انضمت كوريا الجنوبية إلى مصاف الدول الغنية بدخولها نادى "التريليون دولار". والآن، بعد أن استعرضنا سريعا ملامح التجربتين الماليزية والكورية الجنوبية فى التنمية الاقتصادية، وثبت لنا أن الاهتمام بالتعليم كان المحور الأساسي لنهضتهما وتقدمهما، هل ما زال هناك شك لدى السيد الرئيس فى أن للتعليم فائدة فى تقدم الأمم والإرتقاء بشعوبها، وأن الاهتمام بالتعليم والبحث العلمى أمر ضرورى لنجاح جهود التنمية، وأن الاستثمار فى البشر على الدوام أجدى من الاستثمار فى الحجر.