تغيرات تشهدها أوروبا في الفترة الأخيرة، تعيد ترتيب المشهد السياسي من صعود أحزاب واندثار أخرى، فيما تظهر شخصيات جديدة لقيادة المنعطف الجديد. فخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يلقي بظلاله على دول كبري في أوروبا مثل فرنساوإيطاليا، وفي ضوء ذلك يحاول الحزب الحاكم في روما إحكام سيطرته على البلاد لتفادي حدوث تحولات كبرى، وتفويت الفرصة على المناهضين لأوروبا الموحدة من أن يستغلوا المشهد ويصعدوا في روما. في هذا السياق، تجري إيطاليا، الأحد المقبل، استفتاء على إصلاحات اقتصادية ودستورية، طرحها رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رينتسي، وتعهد بالاستقالة وترك المشهد برمته للمعارضة إذا صوت الإيطاليون بالرفض، وتخشي الأسواق المالية والسياسيون الأوروبيون من فوز المعسكر الرافض للإصلاحات، بما قد يتسبب في اضطرابات سياسية تؤثر على القطاع المصرفي الإيطالي الذي يعاني بالفعل من مشكلات قد تدفع منطقة اليورو لأزمة جديدة. رئيس وزراء إيطاليا طرح الاستفتاء بهدف إجراء إصلاح دستوري يعيد صوغ مصادر التشريع في إيطاليا ومنابعه عبر تقليل دور مجلس الشيوخ والحد من صلاحياته وتجريده من حق التصويت على الثقة بالحكومة، وهي إجراءات تقول الحكومة إنها ستحقق الاستقرار السياسي في بلد توالت عليه 60 حكومة منذ عام 1946. ومع اصطفاف كل أحزاب المعارضة ضد التعديلات الدستورية المقترحة سيكون فوز رئيس الوزراء الإيطالي مفاجأة، وسيمثل نصرا شخصيا ضخما لأصغر رئيس وزراء في إيطاليا، الذي كثيرا ما بدا أنه يخوض الحملة منفردا، لكن استطلاعات الرأي في الشهرين الأخيرين أشارت تقريبا إلى أن رينتسي سيهزم. يعتمد رينتسي، في حملته على المؤيدين لبقاء الاتحاد الأوروبي والكتلة التي تتخوف من حدوث فراغ سياسي إذا ما هزم، وفي خطابه الأخير، في إطار حملته في فلورنسا، قال رينتسي، إن كلمة "نعم" يجب ألا تسمح فقط بتغيير إيطاليا بل بتغيير أوروبا، والعالم. وإذا نجح رئيس الحكومة في مسعاه لتمرير الإصلاح الدستوري، فإنه سيستغله ليحصل أخيرا على تفويض انتخابي لا يملكه حتى الآن، كونه يجلس على كرسي رئيس الحكومة باعتباره زعيما للحزب الديموقراطي، وليس باعتباره مالكا للتفويض الانتخابي من جانب الشعب. ورغم رهان رينتسي كثيرا على هذا الاستفتاء وعلى رغبة الإيطاليين في التجديد، فإن مراقبين يرون أنه ربما ارتكب خطأ استراتيجيا بربط بقائه في الحكم بالنتيجة المرتقبة، على الرغم من أنه خفف في الأسابيع الأخيرة من نبرة "الوعيد" بالاستقالة في حال فشله، والتي قد تعيد مشهد بريطانيا للحدوث في روما أيضا، على غرار فشل رئيس الحكومة البريطانية ديفيد كاميرون، في تمرير استفتائه الذي قاد إلى ما عرف ب"بريكسيت"، واضعا حدا لحضوره السياسي في المملكة المتحدة، تاركا وراءه معضلة سياسية ودستورية ليس لبريطانيا وحدها بل للاتحاد الأوروبي. المشكلة أن الإصلاحات الحكومية التي تنص أيضا على إلغاء نظام الأقاليم، لم يعارضها الطامحون في الخروج من الاتحاد الأوروبي فقط، بل غالبية الطبقة السياسية من أقصى اليسار وصولا إلى اليمين المتطرف، مرورا ب"الشعبويين" من حركة "خمسة نجوم" أو "رابطة الشمال" وحزب "فورتزا إيطاليا" برئاسة سيلفيو برلوسكوني. ثمة مطالبات بانتخابات مبكرة في حال فوز رافضي الإصلاح الدستوري، وهو أمر يصعب تحقيقه لأن الرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا، هو الوحيد الذي يمكنه أن يقرر حل البرلمان، ولن يقوم بذلك إلا بعد إصلاح قانون انتخاب النواب، وبالتالي، فإن فوز معارضي الإصلاح لن يقود بشكل تلقائي إلى انتخابات مبكرة ولا حتى إلى انسحاب فعلي لرينتسي من الساحة السياسية، إذ يمكن أن يعينه الرئيس الإيطالي مجددا في منصبه ويحصل على ثقة الأغلبية الحالية. يقول المراقبون إن الفارق، أيا كانت النتيجة، لن يكون كبيرا بين نعم ولا، وقد تشهد الساحة الإيطالية سجالات حول عمليات تزوير فعلية أو مفترضة، لكن ما هو مؤكد بالفعل أن إيطاليا ستشهد انقساما عميقا لن يستفيد منه مستقبلها الأوروبي، لأن تلك النتيجة، وببساطة، ستزيد من تأثير القوى المناهضة للاتحاد الأوروبي، وهو ما سيترك آثاره القلقة في الأسواق الأوروبية بسبب المخاوف من مرحلة جديدة من عدم الاستقرار في ثالث اقتصاد في منطقة اليورو.