رغم ما يبدو من طغيان للممارسات الجماعية داخل المشهد الصوفي المصري الآن في صورة طقوس وعبادات وعادات وتقاليد وإحتفالات وفرق متنوعة لكل منها هيكل اجتماعي وديني خاص، إلا أن نشأة التصوف في الإسلام ظهرت بوصفها نزعة فردية لدى أشخاص عرفوا بالزهد والحكمة والعدل وسعوا لإصلاح حياتهم الخاصة والعامة، ومع مرور الوقت التف الناس حولهم، وتكونت حلقات من التلاميذ تصاحبهم فى حياة الزهد والعبادة. بدايات الصوفية في مصر في كتابه "التجليات الروحية في الإسلام" يشير جوزيبي سكاتولين أستاذ التصوف الإسلامي بالمعهد البابوي للدراسات العربية والإسلامية بروما إلى أنه في الفترة الممتدة من أواخر القرن الأول وبداية القرن الثاني الهجري تشكلت تدريجيًا في مختلف العواصم الإسلامية مدارس للزهد والتصوف، ولكل هذه المدارس خصائصها المميزة التى اكتسبتها من الزهاد الذين عاشوا ومارسوا حياتهم فيها. ويشير سكاتولين لخمس مدارس رئيسية هى: مدرسة المدينةالمنورة، والبصرة، والكوفة، وخرسان، ومصر، ومن أبرز الزهاد والمتصوفة المصريين في تلك الفترة "سليم بن عمر التجيبي، وعبد الرحمن بن حجير، وحياة بن شريح، والليث بن سعد، وأبو عبد الله بن وهب بن مسلم المصرى"، ورغم أن العديد من هؤلاء الزهاد لم يكونوا مصريين مثل: سليم بن عمر التجيبي الذي جاء إلى مصر من المدينة إلا أن البيئة المصرية بكل ما تحمله من تراث ومعرفة وتنوع كانت لها الأثر الأكبر في حياته وفي حياة باقي الزهاد والمتصوفة. ويرى المستشرق سبينسر تريمنجهام أن ظهور مسمى الصوفية لأول مرة في الإسلام كان في مدينة الإسكندرية حوالي سنة 200 هجريًا، بينما ينسب باحثون آخرون المسمى لمدرسة الكوفة، ورغم هذا الاختلاف إلا أن معظم الباحثين يجمعون على أن لفظ التصوف قد ظهر بمرور الزمن كجزء من التطور في ظل توسع الإسلام وانتشاره وإنفتاحه على العديد من الحضارات والثقافات، فقبل ذلك كان يطلق عليهم لفظ الزهاد لأنهم يمارسون حياة الزهد، والعباد لكثرة العبادة، والنساك لأنهم يواظبون على التنسك، والبكاؤؤن لانهم يكثرون من البكاء على ذنوبهم. وفي هذا السياق يمكن ملاحظة أن مدرسة التصوف المصرية قد تأثرت ببعض جوانب الحياة الروحية عند الرهبان المسيحيين، من العزلة والتأمل والخلوة مع الله، وقد روي عن سليم التجيبي قوله "لما قفلت من البحر تعبدت في غار بالإسكندرية سبعة أيام لا أكلت ولا شربت"، وتأثرت أيضًا بالحضارة المصرية القديمة من خلال فكرة الطقوس والاحتفالات والأولياء، وتميزت بفكرة الرحلة التي يسعى فيها الإنسان للوصول لحالة يتماهى فيها مع الإله منطلقًا من المحبة لا الخوف من العقاب، وهذه الرحلة التي يخوضها الإنسان هى رحلة فردية وشخصية يكتشف فيها ذاته والكون، وهنا يشار إلى أن واحدًا من أبرز المتصوفة المصريين هو ذو النون المصري الذي تتحدث العديد من المصادر التاريخية عن كونه أول من عمل على فك رموز وطلاسم الكتابة الهيروغليفية، واطلع على كتابات وتعاليم "تحوت" التي تتعلق بالحكمة والمعرفة، وذو النون من الشخصيات التي كانت ولا تزال محل جدل كبير بين الباحثين فبينما يرى بعضهم أن هناك مبالغات في المرويات عنه، يرى آخرون أنه من أبرز رواد التصوف الإسلامي. ذو النون المصري هو أبوالفيض ثوبان بن إبراهيم الملقب بذى النون المصرى، واحد من أبرز أعلام مدرسة التصوف المصرية، ولد ذو النون في منتصف القرن الثاني الهجري بأخميم بصعيد مصر، ثم رحل منها إلى الفسطاط، واستمر في الترحال داخل مصر وخارجها فقد زار بلاد الرافدين والجزيرة العربية، وقد وصفه المناوي فى كتابه الكواكب الدرية "بأنه العارف الناطق بالحقائق، الفائق للطرائق، ذو العبارات الوثيقة، والإشارات الدقيقة، والصفات الكاملة، والنفس العاملة، والهمم الجلية، والطريقة المرضية، والمحاسن الجزيلة المتبعة، والأفعال والأقوال التى لا تخشى منها تبعة، زهت به مصر وديارها، وأشرق بنوره ليلها ونهارها". ورغم هذه المكانة الكبيرة التي تمتع بها ذي النون كزاهد وعالم ومحدث إلا أن هذا لم يمنع من اتهامه من قبل بعض رجال الدين المتشددين بالذندقة والكفر، وتشير بعض الكتب التراثية إلى أن الخليفة المتوكل استدعى ذو النون إلى بغداد لمحاكمته على هذه التهم، وفى محبسه كان ذو النون يناجى ربه قائلًا لك من قلبى المكان المصون/ كل لوم على فيك يهون / لك عزم بأن أكون قتيلا/ فيك والصبر عنك مالا يكون، ويروى أن ذو النون عندما دخل على المتوكل قال له المتوكل: ما تقول فيما قيل فيك من الكفر والزندقة؟ فسكت، فقال المتوكل : لم لا تتكلم؟ فرد ذو النون قائلًا يا أمير المؤمنين إن قلت لا كذبت المسلمين، وإن قلت نعم كذبت على نفسى، فافعل أنت ما ترى فأننى غير منتصر لنفسى، فبكى المتوكل وقال: هو رجل برئ مما قيل فيه ورده مكرماً إلى مصر، وقال وهو يودعه إن كان هؤلاء زنادقة فما على وجه الأرض مسلم. وقد اشتهر ذو النون بحكمته وزهده ومن أبرز ما روي عنه قوله: اطلبوا لأنفسكم مثلما وجدت/ قد وجدت لى سكناً ليس فى هواه عنا / إن بعدت قربنى أو قربت منه دنا، وكان ذو النون يقول لتلاميذه، وهو يوصيهم "جالس من تكلمك صفته، ولا تجالس من يكلمك لسانه" ويحذرهم من الدنيا قائلًا "لا تسكن الحكمة معدة مُلئت طعاماً" ، وعندما سُئل "متى تصح عزلة الخلق"؟ قال: "إذا قويت على عزلة النفس′′، ويضيف "من تذلل بالمسكنة والفقر إلى الله رفعه الله بعز الانقطاع إليه"، وكتب ذو النون العديد من الكتب منها كتاب الركن الأكبر، والعجائب، وأشعار في حجر الحكماء. الطرق الصوفية في تتبع رحلة الصوفية في مصر يلاحظ أن بدايات ظهور أول كيان رسمي للصوفية في مصر كانت في عهد صلاح الدين الأيوبي من خلال إنشاءه أول "خانقاه"، سميت بسعيد السعداء، وكانت تعرف بدويرة الصوفية بالقاهرة، وقد جعلها لإقامة الصوفية الوافدين إلى مصر، ولقب شيخ هذه الخانقاه بشيخ الشيوخ، وكان سكانها من الصوفية يعرفون بالعلم والصلاح وترجى بركتهم، و"الخانقاه" هو المكان الذي ينقطع فيه المتصوف للعبادة، اقتضت وظيفتها أن يكون لها تخطيط خاص، فهى تجمع بين تخطيط المسجد والمدرسة ويضاف إلى هذين التخطيطين الغرف التي يختلى أو ينقطع بها المتصوف للعبادة والتي عرفت في العمارة الإسلامية باسم الخلاوى. وشهد العصر المملوكي انتشارالخانقاوات، وكان أبرزها خانقاه سرياقوس، والتي أسسها الناصر محمد بن قلاوون، كما انتشرت المدارس الصوفية، كالتي قامت في القاهرة واستوعبت كل من وفد إليها من صوفية المشرق الإسلامي، وكالتي قامت في صعيد مصر، وأسسها الشيخ عبد الرحيم القنائي ثم خلفه عليها الصوفي المصري أبو الحسن الصباغ، كما كانت هناك مدرسة الإسكندرية التي وفد إليها من العراق الشيخ الواسطي وأقام بها وبشَّر بالطريقة الرفاعية سنة، وممن وفد إلى مدرسة الإسكندرية السيد أحمد البدوي مؤسس الطريقة الأحمدية، ثم أقام بطنطا بعد ذلك، كما استوطن بها الشيخ أبو الحسن الشاذلي مؤسس الطريقة الشاذلية، ومعه جملة من تلاميذه ومريديه، ثم قام على الطريقة من بعده أبو العباس المرسي ثم من بعده الصوفي المصري ابن عطاء الله السكندري . ويلاحظ خلال هذه الفترة الحضور المتنامي لمشايخ الصوفية في الحياة السياسية والأمور العامة سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ومنهم الإمام أبي الحسن الشاذلي والسيد أحمد البدوي، ثم جاء العصر العثماني، الذي شهد انتشارا واسعًا للطرق الصوفية، بين جميع طبقات الشعب المصري، وأصبح الإهتمام بالنزعة الجماعية التي تظهر في الاحتفاء الكبير بالطقوس والاحتفالات والموالد، أكثر من العناية بجوهر التصوف نفسه، فضلاً عن المبالغة في تقديس الشيوخ. المصادر _كتاب سير أعلام النبلاء" للإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي. _ كتاب "التجليات الروحية في الإسلام" لجوزيبي سكاتولين. _كتاب "الطرق الصوفية في مصر نشأتها ونظامها وروادها" لعامر النجار. _كتاب "التنشأة السياسية للطرق الصوفية في مصر" لعمار على حسن.