لا ينسى التاريخ كيف تحرك السلطان سليم الأول بجيوشه نحو مصر غازيا منذ أن علم أن ثمة رسالة وصلت من إيران إلى القاهرة وتم الرد عليها من القاهرة إلى إيران، فكشر السلطان عن أنيابه وقرر وقف حروبه وحروب أجداده في أوروبا لينقض على الشام ومصر ويدخل القاهرة ويشنق حاكمها طومان باي ويعلق رأسه على باب زويلة، ويعلن مصر "ولاية عثمانية" تابعة لاسطنبول، ولم يكتف بذلك بل أخذ معه خليفة المسلمين إلى تركيا وأجبره أن يتنازل عن الخلافة وسلب من القاهرة مكانتها كونها عاصمة الخلافة الإسلامية ومركز العالم السني. مع بدايات استقلال مصر وبعد إعادة محمد علي باشا لقوتها وخلفه حفيده الخديوي إسماعيل ورافق ذلك ضعف الدولة العثمانية وتوقيع اتفاقية "أرضروم" المعروفة تم افتتاح أول قنصلية لإيران في القاهرة لرعاية المصالح بين البلدين، وما أن استقلت مصر رسميا عن الدولة العثمانية وتم إعلان المملكة المصرية وبعدها إنهاء الحماية البريطانية على مصر في العشرينيات من القرن الماضي حتى تم توقيع اتفاقية الصداقة والشراكة بين مصر وإيران عام 1928 وتطور الأمر بزواج أسطوري شهير بين الأميرة فوزية أخت الملك فاروق والأمير محمد رضا بهلوي ولي عهد إيران وقتها والذي أصبح بعد أبيه شاه إيران. وظل الوضع جيدًا حتى عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ففي هذا الوقت كانت مصر هي حاملة راية معاداة أمريكا وبريطانيا في المنطقة بينما تحولت إيران لشرطي يحافظ على مصالح الدول الكبرى وعلى رأسها أمريكا في المنطقة، لم تكن الخلافات بين مصر وإيران وقتها دينية أو تحمل أي شكل ديني أو طائفي ولم تكن مشكلة مصر أن إيران "شيعية" بل كانت المشكلة سياسية وكان مصدرها الأول حرية مصر وكرامتها في مقابل تبعية إيران للغرب وقتها، بل إن مصر دعمت رئيس الوزراء الإيراني مصدق في محاولاته العظيمة لاستقلال إيران وخروجها من التبعية الغربية ولو كان نجح ولم ينقلب عليه الشاه لتحولت إيران وقتها لحليف استراتيجي أساسي لمصر. وتشاء الأقدار أن ينقلب الوضع في عام 1979، ففي نفس العام الذي وقعت فيه مصر اتفاقية السلام مع العدو الصهيوني وخرجت من محور الرفض إلى محور التبعية ودارت في فلك أمريكا واستسلمت لرحى النظام العالمي الجديد كانت تقوم في إيران ثورة ضد حكم الشاه أكبر حليف لأمريكا ونجحت الثورة وتمردت إيران على أمريكا ورفضت الخضوع وأممت النفط وأعلنت استقلال قرارها بشكل كامل، وتبدل الحال. منذ هذا التاريخ وفيما يبدو أن أمريكا وحلفاءها في المنطقة وضعوا خط أحمر عريض وقوي على السياسة المصرية «ممنوع أي تقارب مع إيران» وأعلنت مصر استضافتها لشاه إيران المخلوع وكانت القطيعة. العجيب أنه بالرغم من الحرب العراقية الإيرانية التي قامت بعد عام واحد من الثورة الإيرانية بدعم خليجي كبير وحتى اليوم في ظل كل الصراع السياسي بين الخليج وغيرها ان العلاقات الخليجية الإيرانية لم تنقطع يوما، بالإضافة إلى العداء الكبير في الملفات السياسية بين تركياوإيران لم تنقطع العلاقات بينهما يوما ولم يضع أحد منهم خط أحمر لمصالحه الاقتصادية والسياسية والأمنية. فهم يعلمون جيدا أن إيران قوة اقتصادية وثقل سياسي كبير في المنطقة وأنها بوابة القارة الأسيوية بالنسبة للعالم العربي، ولذلك نجد أن دولا مثل الإمارات العربية وقطر والكويت والبحرين لهم شراكة اقتصادية وتعاون كامل مع الدولة الإيرانية بالرغم من أن الإمارات تعتبر إيران دولة تحتل جزءا من أراضيها!، وقطر تعتبر إيران العائق الأكبر أمام مشروعها!، والكويت لديها طائفة شيعية كبيرة تخشى عليها من النفوذ الإيراني!، ولكن كل هذا لم يمنع هذه الدول من التوازن وتحكيم العقل في المصالح والمفاسد. ليس هذا فقط بل أن السعودية نفسها ورغم كل العداء الصريح بينها وبين إيران تعتبر سوقا للمنتجات الإيرانية وهناك خط جوي مباشر من الرياض لطهران واتفاقيات اقتصادية في مجالات مختلفة، صحيح أن الوضع تجمد خلال الفترة الأخيرة؛ بسبب ارتفاع نبرة العداء بين البلدين إلا أن هذا استثناء في السنتين الأخيرتين فقط. أما تركيا فحدث ولا حرج فالتعاون السياسي والاقتصادي بين البلدين كبير وضخم لدرجة تشابك المصالح والتعامل الندي الذي كان في الفترة السابقة أقوى من الخلاف الكبير بين البلدين في ملفات مهمة كالملف السوري والملف العراقي. هذه الدول كلها وغيرها من الدول مثل سلطنة عمان والجزائر ودولا أخرى مهمة مثل أرمينيا مازالت حتى اليوم تستفيد من علاقتها الاقتصادية والسياسية بدولة مهمة كإيران ورغم هذا التعاون الكبير لم تتحول دولة مثل تركيا لدولة شيعية؟، ولم يزد فيها نسبة الشيعة رغم انفتاحها وسهولة النشر فيها بل إن الفيلم الإيراني الأخير الشهير "محمد رسول الله" يعرض اليوم في سينمات تركيا دون أي مشاكل أو خوف أو حساسيات. فهل مصر تقل قوة في شخصيتها وأهميتها عن دولة مثل تركيا؟، وهل الشعب التركي أقوى شخصية من الشعب المصري؟، ولماذا تغضب هذه الدول وتستفز بمجرد أن يتم الحديث عن أي تقارب مصري إيراني أحرام علينا وحلال لهم؟، لماذا لا يغضبون نفس الغضبة من التقارب المصري مع الكيان الصهيوني وهو كيان غاصب لقيط عدو للأمة؟، لماذا لا يثور الإعلام التركي والقطري والسعودي حين يزور وزير الخارجية المصري القدس كعاصمة لإسرائيل بينما تحمر وجوههم غضبا اذا انتشر خبر غير مؤكد عن زيارة وزير مصري لطهران؟. في النهاية إيران لا تحتل جزءا من الأراضي المصرية ولا تشكل تهديدا لأي مصالح مصرية، ومصر في علاقتها مع إيران تحارب في معركة ليست معركتها، والأولى في هكذا فترة عصيبة في تاريخ مصر أن يشجع العرب والمسلمون مصر إلى التعاون والصداقة مع مكونات الأمة الإسلامية بدلا من أن تكون مصر على وفاق مع الصهاينة اللصوص، إيران ند لمصر يستحق أن يكون على علاقة وتواصل معها فكلاهما بلاد عريقة وأصحاب حضارات قديمة ومصر قلب العالم السني وإيران قلب العالم الشيعي ومصر بوابة إفريقيا وإيران بوابة آسيا. وأخيرا إيران ليست عدوا بل العدو هو الكيان الصهيوني الذي يحتل فلسطين ويهدم المسجد الأقصى ويحتل جزءا من سوريا ويعبث في سيناء ويسرق غاز وثروات البحر المتوسط. ولا تقبل مصر أن يكون أحدا كائنا من كان وصيا على شعبها كأنه شعب قاصر، ويجب أن لا تنخدع مصر بأبواق مشايخ التكفير الوهابيين الذي يصرخون ليلا ونهارا إذا حدث تقارب مع إيران وهم في ذلك يقومون حقيقة بدور جيش السلطان سليم الذي كان يعلم جيدا أن أي تقارب مصري إيراني معناه قوة للطرفين وتحطيم لمشاريع عديدة والعجيب أن سليم وبعد كل حروبه والدماء التي أسالها وقع اتفاقيات أيضا مع إيران وكان التبادل التجاري والسياسي كبير بينهما ولكن ذلك كان حرام على مصر، التي لا يريد أحد أن يراها قوية عزيزة عظيمة.