بضعة أيام تفصلنا عن شهر شعبان، الذي هو بين شهر رجب، وشهر رمضان المعظم. وقد قال المصطفي - صلي الله عليه وسلم - عن شهر شعبان، فيما رواه أسامة بن زيد، قال: قلت: يا رسول الله: لم أرك تصوم شهرا من الشهور ما تصوم من شعبان، قال: "ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلي رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم". قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله: وفي هذا الحديث فوائد، أحدها في قوله: "يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان" إشارة إلي أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه، إما مطلقا أو لخصوصية فيه لا يتفطن لها أكثر الناس فيشتغلون بالمشهور عنه، ويفوتون تحصيل فضيلة ما ليس بمشهور عندهم. ثم قال رحمه الله: وفي إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد.. الفائدة الأولي: أنه يكون أخفي، وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل. لا سيما الصيام، فإنه سر بين العبد وربه. وقد صام بعض السلف أربعين سنة لا يعلم به أحد، كان يخرج من بيته إلي سوقه ومعه رغيفان، فيتصدق بهما ويصوم، فيظن أهله أنه أكلهما ويظن أهل السوق أنه أكل في بيته. الفائدة الثانية: أنه أشقّ علي النفوس، وأفضل الأعمال أشقها علي النفوس، وسبب ذلك أن النفوس تتأسي بما تشاهد من أحوال أبناء جنسها، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعاتهم كثر أهل الطاعة لكثرة المقتدين بهم فسهلت الطاعات. ويلخض هذا المعني قول النبي - صلي الله عليه وسلم-: "للعامل منهم أجر خمسين منكم، إنكم تجدون علي الخير أعوانا ولا يجدون". قال العلماء: ورفع الأعمال علي ثلاث درجات.. الأولي: رفع يومي ويكون ذلك في صلاة الصبح وصلاة العصر، لما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون. الثانية: رفع أسبوعي ويكون في يوم الخميس وذلك لما رواه الإمام أحمد في مسنده بسند حسن عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله - صلي الله عليه وسلم - قال: "إن أعمال بني آدم تعرض كل خميس ليلة الجمعة، فلا يقبل عمل قاطع رحم". الثالثة: رفع سنوي ويكون ذلك في شهر شعبان. وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: واعلم أن الأوقات التي يغفل الناس عنها معظمة القدر لاشتغال الناس بالعادات والشهوات، فإذا ثابر عليها طالب الفضل دل علي حرصه علي الخير، ولهذا كان فضل شهود الفجر في جماعة عظيما، لغفلة كثير من الناس عن ذلك الوقت. قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله: قيل في صوم شعبان إن صيامه كالتمرين علي صيام رمضان لئلا يدخل في صوم رمضان علي مشقة، بل يكون قد تمرن علي الصيام واعتاده ووجد حلاوة الصيام ولذته، فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط. أسأل الله أن يعيننا علي الطاعة في شهر شعبان الذي ترفع فيه الأعمال، ويغفل عنه الناس، وأسأله سبحانه أن يبلغنا رمضان ونحن جميعا في أحسن صحة وأسعد حال، وأن يجعله شهر خير وبركة وأمن وأمان علي أمتنا العربية والإسلامية، وعلي سائر بلاد العالمين، وأن يخلصنا فيه من وباء "كورونا" اللعين الذي غيب عنا أناسا نحبهم، ونغص علينا حياتنا وزاد من أعبائنا النفسية والاقتصادية. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. [email protected]