هناك جدل يدور وتتسع دوائره فى الداخل والخارج وفى المداخلات تتناثر المقولات.. فهناك من يصف ما جرى بعد «30 يونية» بأنه انقلاب عسكرى على الشرعية الدستورية، وهناك من يصفه بأنه إجراء استثنائى اقتضته الظروف، ولكن فى حقيقة الأمر.. فإن ما جرى ويجرى واحتكامًا إلى النص الدستوري.. هو عملية تصحيحية فى مسار الشرعية الدستورية وليس انقلابًا عسكريًا عليها. ودعونا نذهب إلى المادة «153» فى دستور 2012 فالمادة تشير بنص الكلمات إلى أن منصب رئيس الجمهورية يخلو ب«الاستقالة أو الوفاة أو العجز الدائم عن العمل أو لأى سبب آخر».. وهكذا.. فالمادة تقر بوجود أسباب أخرى لخلو منصب رئيس الجمهورية بالإضافة إلى الاستقالة أو الوفاة أو العجز الدائم عن العمل، وبإقرار المادة لوجود أسباب أخري.. فلقد باتت هذه الأسباب بالضرورة أسبابًا دستورية. ومن ثم فإذا قلنا الآن إن من بين هذه الأسباب الدستورية الأخري.. إرادة الشعب مجسدة بالملايين فى الميادين ومطالبة برحيل الرئيس فمن بمقدوره.. عندئذ.. أن يصف الاستجابة لهذه الإرادة بأنها انقلاب على الشرعية الدستورية خاصة أن البند أولاً من ديباجة دستور 2012يقول نصًا: الشعب مصدر السلطات يؤسسها وتستمد منه شرعيتها وتخضع لإرادته»، وبمنطوق البند.. فإن الدستور يمنح الشرعية الدستورية لإرادة الشعب ولا يرهنها.. فقط بصندوق الانتخابات لا أظن.. أن أحدًا يستطيع أن يحاول واحتكامًا إلى المادة «153» والبند أولاً من الديباجة حول المشروعية الدستورية للاستجابة لإرادة الشعب في الميادين وأن ما جري كان عملية تصحيحية فى مسارالشرعية وليست انقلابًا عسكريًا عليها. يبدو لى أن هذه العملية التصحيحية كان يمكن أن تتم بتكلفة أقل دون إراقة دماء تسيل الآن.. لولا نصائح خاطئة تلقاها الرئيس السابق من بعض المستشارين.. الهواة الذين أحاطوا به، فلقد كان بمقدور الرئيس السابق ووعيًا بمنطوق المادة «153» والأسباب الدستورية الأخرى التى أشارت إليها أن يباشر الحق الذى كفلته المادة 150 بدعوة الناخبين للاستفتاء فى المسائل المهمة، وكان يحق له بالتالى دعوة الناخبين لاستفتاء الثقة ولكن المستشارين الهواة خرجوا ليصرحوا بأن رئيس الجمهورية ليس له الحق دستوريًا فى دعوة الناخبين لاستفتاء الثقة، بينما المادة «153» تتحدث عن أسباب دستورية أخرى بخلو منصب رئيس الجمهورية والمادة «150» تركت لرئيس الجمهورية -منفردًا- حق تقدير ما يراه مدرجًا تحت ما يوصف ب«المسائل المهمة» ولم تلزمه بقيود ويتراءى لى أن هؤلاء المستشارين لم يقرأوا جيدًا المادة «153» فالمادة لا تفتح فقط بابًا لاستفتاء الثقة ولكنها تفتح -أيضًا- بابًا لعزل الرئيس تحت ضغط الإرادة الشعبية دون أى ادعاء بالانقلاب على الشرعية الدستورية. يدهشنى أن هؤلاء المستشارين قد نصحوا الرئيس السابق بأن يقوم بنفسه بانقلاب عسكرى على الشرعية الدستورية ولذلك كانت قوائم الاعتقال لمعارضيه حاضرة، ولقد حاول الرئيس السابق وبالفعل القيام بهذا الانقلاب فى خطابه قبل الأخير، ففى هذا طالب بتطبيق القانون العسكرى على منتقديه بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة ولم ينتبه إلى أن هذه الصفة -دستوريًا- هى صفة سياسية وليست عسكرية، ولذلك فلقد حمل هذه الصفة فى المادة «146» والتى جاءت ضمن مواد الباب الثالث/ السلطات العامة - الفصل الثاني/ السلطة التنفيذية/ الفرع الأول.. رئيس الجمهورية، ولم يحملها فى الفصل الخامس/ الأمن القومى والدفاع- الفرع الثاني: القوات المسلحة، ومن البديهي.. إنه عندما يقوم أى رئيس جمهورية منتخب بحكم البلاد بصفة عسكرية كقائد أعلى للقوات المسلحة فإنه يقوم عمليا بانقلاب عسكرى على الشرعية الدستورية، إذ إنه وفى هذه الحالة قد قام ودون اختصاص دستورى بتعطيل مواد فى الدستور وأسقط دستوريا حق الشعب والمؤسسات المدنية فى مساءلته وهذا ما حاول الرئيس السابق أن يقوم به فى خطابه قبل الأخير ولنتأمل معًا: أ- عندما طالب الرئيس السابق بتطبيق القانون العسكرى على منتقديه فإنه طالب تلازمًا بمحاكمتهم أمام القضاء العسكرى ليعطل بذلك المادة «198» من الدستور التى تنص على عدم جواز محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكرى إلا فى الجرائم التى تضر بالقوات المسلحة ومن البديهى أن انتقاد أداء رئيس منتخب فى المجالات السياسية أو الاقتصادية.. إلخ، لا يضر بالقوات المسلحة. ب- وطالما أن القانون العسكرى سوف يجرى تطبيقه- وكما أراد- على معارضيه وطالما أنه أعلن عن نفسه وكما أراد بصفة عسكرية كقائد أعلى للقوات المسلحة، فإنه بذلك أحال أمر مساءلته إلى القضاء العسكرى دون غيره وعطل تمامًا أى مساءلة مدنية له بالمخالفة للنص الدستورى فالمادة «152» تنص على محاكمة الرئيس إبان مباشرته لصلاحياته أمام محكمة خاصة يرأسها رئيس مجلس القضاء الأعلى. ولعلى بعد ذلك لست مخطئًا أو متعسفًا عندما أقول.. إن ما قامت به القوات المسلحة وفى أعقاب «30 يونية» قطع الطريق على انقلاب رتب له الرئيس السابق انقضاضاً على الشرعية الدستورية وحاول أن يضفى عليه «صبغة عسكرية» فالذى أراد أن يقوم بانقلاب عسكرى على الشرعية الدستورية هو الرئيس السابق وليست القوات المسلحة. واطرادًا فلقد ظل الرئيس السابق يردد مرارًا وتكرارًا مقولة «الدستور» فى خطابيه الأخير وقبل الأخير، ولكنه لم يلاحظ أنه لم يؤد اليمين الدستورية احتراماً الدستور 2012 بعد الاستفتاء عليه وكان أداؤه لليمين وجوبياً، فاستمراره فى موقعه وبعد الاستفتاء على الدستور جاء ضمن الأحكام الانتقالية المادة «226» وهذه الأحكام ذاتها هى تضمنت المادة «236» وبمقتضاها تلغى جميع الإعلانات الدستورية الصادرة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة ورئيس الجمهورية منذ الحادى عشر من فبراير سنة 2011 حتى تاريخ العمل بالدستور وبمقتضى ذلك.. فإن الإعلان الدستورى الذى أدى الرئيس السابق اليمين احترامًا له فور انتخابه.. قد جرى إلغاؤه، وبالتبعية وبتداعى السياق.. كان أداء الرئيس السابق لليمين احترامًا لدستورى 2012 بعد الاستفتاء عليه.. أمرًا وجوبيًا تلح عليه الشرعية الدستورية.. ولكنه لم يفعل. عدم أداء اليمين كان ثغرة فى جدار الشرعية الدستورية وعبر الثغرة تسللت انتهاكات عديدة قام بها الرئيس السابق للدستور، فلقد كانت.. وعلى سبيل المثال المادة «139» تدعوه لعرض اسم الدكتور هشام قنديل على مجلس الشورى للحصول على ثقة المجلس فيه وفى حكومته.. ولكنه لم يفعل، وكان نص المادة «148» تلزمه بأخذ رأى الحكومة.. والتأكيد على ذلك عندما أعلن حالة الطوارئ فى عدد من المحافظات.. ولكنه لم يفعل، وكانت المادة «64» تلزمه بما جاء فيها من عدم جواز فصل الموظف العام إلا فى المجالات المنصوص عليها فى القانون ولكنه فى خطابه قبل الأخير فعل العكس تمامًا.. فلقد أعطى للوزراء حق فصل الموظفين بالاشتباه.. إلخ، وأتذكر أننى فى حوار لى مع قيادى فى حزب الحرية والعدالة قلت له: إنه بغض النظر عن رأيى فى الدستور إلا أننى ألاحظ أن هناك مواد لم يتم تفعيلها ولم يجر احترامها فكان رده وبابتسامة.. الرئيس لم يؤد اليمين على دستور 2012 ولا أظننى فى حاجة إلى تعليق سوى أن عدم أداء الرئيس السابق لليمين لا يعفيه من مسئوليته إزاء انتهاكه للدستور. وبعد.. فما جرى وفى أعقاب «30 يونية» لم يكن انقلابًا عسكريًا بالمرة ولم يكن إجراءًا استثنائيًا اقتضاه الظرف ولكنه كان «عملية تصحيحية فى مسار الشرعية الدستورية»، وتبقى هناك ضمانتان لنجاح هذه العملية فى فترتها الانتقالية إحداهما تؤكد أنه لا إقصاء ولا انتقام، والثانية تلح على أن هذه اللحظة هى توقيت الصفر لعقارب ساعة تشير إلى بداية زمن المحترفين والذى ينبغى أن يتصدروا المشهد.. فلم يعد لدى مصر وقت تهدره مع «هواة» فلن نعبر هذه الفترة بسلام إذا غابت الاحترافية.