السيسي لأردوغان من قلب الجيش المصري: الأمن القومي المصري خط أحمر بعد عار "العثمانية القديمة".. أردوغان يحلم بتدشين "العثمانية الجديدة" د. جمال حمدان: مصر لا تملك أن تتخلف عن العصر تكنولوجيا..أو تدفع الثمن باهظا الأتراك لم يشعروا بالدونية الحضارية إلا أمام المصريين .............................................................. عندما تدهشنا وقائع الحاضر، ونحار في تفسيرها، نتوقف قليلا، عائدين إلى الوراء، خطوات أو قرونا، لنحفر عند جذور المشكلات، ونستلهم التاريخ، الأب الواعي، المفعم بالنضج والحكمة؛ هنا قد تزول الدهشة، ويعود الوعي، ساعتها نرى الصورة بأبعادها الحقيقية، دون تضخيم أو تقزيم. الآن، على رأس هذه النقطة الفارقة من المسار الخطيّ المتقدم للتاريخ، تعاود تركيا، على يد رئيسها، رجب طيب أردوغان، رائد " العثمانية الجديدة "، نزوعها الاستعماريّ التوسعيّ من جديد. فهي تحلم بأن تجني وحدها ثمار ثورات الربيع العربيّ، التي لم يخرج مستفيدا منها سوى تيار الإسلام السياسي، فأرادت أن تجعل منه حصان طروادة الأيديولوجيّ، الذي إذا امتطته، فسيعود إليها عرش الخلافة ( الإسلامية ظاهرا السياسية الاستعمارية باطنًا وحقيقة وواقعًا ). أما عن الخلافة، فتاريخيا وواقعيا، فإن تركيا هي التي ألغتها في 3 مارس 1924، على يد كمال أتاتورك، بناءً على مرسوم صادر من المجلس الوطني الأكبر لتركيا، كأحد الإصلاحات التي تمت بعد أن حَلت جمهورية تركيا محل الدولة العثمانية، وكأن الخلافة أصبحت إذ ذاك من أخطاء الماضي، التي ينبغي لها أن تصلّح ( !! ) . فلماذا فرّطت تركيا إذن في الخلافة الإسلامية، التي تراها الآن هي وتيار الإسلام السياسي التابع لها، أنها النظام الأوحد والأقدس للحكم الإسلاميّ الراشد؟! ألم تكن تركيا يومذاك على علم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخلافة، والذي رواه النعمان بن بشير: " تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله تعالى ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله تعالى ثم تكون ملكا عاضا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله تعالى ثم تكون ملكا جبرية، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها الله تعالى ثم تكون خلافة على منهاج نبوة " ا. ه . أم أن الأتراك يرون أنهم هم المقصودون والمخولون بتحقيق الخلافة التي تكون على منهاج النبوة في آخر الحديث؟! وأيا ما كانت درجة صحة هذا الحديث، الذي يستند إليه تيار الإسلام السياسي المؤدلج كله، ومن خلفه تركيا بالطبع؛ فإنه لا اعتراض، مطلقا، على الخلافة في ذاتها بوصفها نظاما للحكم، على مدى قرون عديدة، خاصة ونحن نعيش عصر التكتلات السياسية والاقتصادية والعسكرية العملاقة، ولكن شريطة أن توضع الخلافة في إطار أنها اجتهاد بشريّ، توافرت له الشروط الضامنة لتطبيقه بالعدل، أو كما وصفها الشيخ علي عبد الرازق، في كتابه المثير للجدل "الإسلام وأصول الحكم " بقوله: "إن الخلافة ليست ركنا من أركان الإسلام، ولا أصلا من أصول الدين. وهي اختيار إنساني جرى في لحظة تاريخية معينة، وليست ملزمة للمسلمين إلى يوم الدين". ولكن الاعتراض، كل الاعتراض، هو أن تتحول الخلافة إلى غطاء أيديولوجي؛ لشرعنة الأطماع الاستعمارية التوسعية، والاستيلاء على ثروات البلاد ومقدرات الشعوب. وهذا هو بالضبط ما تفعله تركيا الآن مع الجارة الشقيقة ليبيا، فهي تريد الاستيلاء على ثرواتها من النفط والغاز في "سرت" وشرق البحر الأبيض المتوسط، عبر الاتفاقية البحرية/الأمنية، التي أبرمتها مع فايز السراج، رئيس حكومة الوفاق، المنتمي هو وميليشياته إلى تركيا عرقيا وأيديولوجيا، في 27 نوفمبر 2019. وهي في جوهرها ليست إلا احتلالا عسكريا واستعمارا بحريا لشواطئ ليبيا. ولربما جرف الحنينُ "أردوغان" إلى "عثمانية جديدة"، لا تقل عارا عن "العثمانية القديمة"، حينما كانت ليبيا واقعة تحت الولاية العثمانية من عام 1551حتى عام 1911، وانتهت هذه العثمانية الغابرة بتسليم ليبيا إلى إيطاليا، بل قل بَيْع ليبيا، بموجب معاهدة "لوزان" عام 1911، بعد حرب دارت بينهما، وحصل العثمانيون لقاء ذلك على فتات امتيازات خاصة في ليبيا، بعدما خذلوا الليبيين، وتركوهم وحدهم في مواجهة الإيطاليين. فنهض الليبيون وحدهم بالجهاد ضد الطليان بقيادة شيخ المجاهدين، عمر المختار. وما يحدث في ليبيا ليس سوى أحد وجهيْ العملة الاستعمارية التركية. أما الوجه الأخطر والأقبح فهو الحقد التاريخي القديم، والرغبة التركية الحارقة في تهديد العمق الجيوإستراتيجي لمصر من جهة الغرب، فاحتلال تركيا لليبيا وزرع قواعد عسكرية بها، هو بمثابة الرمح المغروس في خاصرة الأمن القومي المصري، وهو ما لم ولن تسمح به مصر أبدا. ومبعث الحقد التركيّ القديم على مصر، هو أن الأتراك لم يشعروا بالدونية الحضارية إلا بإزاء المصريين.انظر كيف يصف المؤرخ العبقريّ الدكتور جمال حمدان، في كتابه الموسوعيّ الفذّ "شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان" ؛اللقاء بين حضارة المصريين وحضارة الترك، في القرن السادس عشر قائلا: "كان اللقاء لقاءً بين حضارة مستقرة عريقة راقية، وبين غزاة أشبه بمتبربري الإمبراطوريات القديمة، فالأتراك العثمانيون ليسوا إلا آخر موجات رعاة وسط آسيا البدائية المتخلفة التي انطلقت غربا. وشحنُ سليم للآلاف من مهرة الصناع المصريين إلى إستنبول تعبير حاسم عن مستوى الحضارتين، كما كان كلا الطرفين على وعي تام به، حيث يذكر ابن إياس أن المصريّ العاديّ كان ينظر إلى "عسكرهم كهمج"، بينما كان الأتراك يرددون إلى القرن ال 18 أن "المسموع عندنا في الديار الرومية أن مصر منبع الفضائل والعلوم". غير أن هذا التقدم الحضاريّ العام لم يُجدِ إزاء التفوق التكنولوجيّ العسكريّ، فكلف هذا مصر استقلالها لثلاثة قرون على الأقل، ولولاه لتغير مصير مصر والشرق العربيّ جميعا.". ومما أسهم في قلب معادلة الصراع لصالح الأتراك العثمانيين ضد مصر آنذاك هو أن "آسيا الصغرى كما يرى الدكتور جمال حمدان لم تكن الآن مجرد آسيا الصغرى، بل تحمل وراءها إمبراطورية مترامية في شرق أوروبا ( قل: "أوراسيا الصغرى" )..." . ما أشبه الليلة بالبارحة!! (وإن كانت البارحة البعيدة منذ خمسة قرون) فتركيا أردوغان اليوم تريد أن تعيد تموضعها القديم ذاته، بانخراطها في حلف شمال الأطلسيّ الأوروبيّ، وتجعل من العالم العربيّ حديقتها الخلفية، أو مخزنا للثروات، تغترف منه ما شاءت ومتى شاءت. ولكن فات رائد العثمانية الجديدة أن مصر القرن الحادي والعشرين غير مصر القرن السادس عشر. لا غرابة، فذلك هو ديدن الترك. وما شحْنُ سليم للصناع المهرة في مقتبس د.حمدان السابق إلا مثالا يُجزئ في الدلالة على التجريف العثمانيّ الشامل لخيرات مصر المادية والحضارية، ونقلها إلى الآستانة ؛ مما أدى إلى إفقار مصر وتخلفها ردحًا طويلا من الزمن. على أن أخطر ما في كلام الدكتور جمال حمدان السابق هو تشخيصه للأسباب التي أدت إلى تغلب العثمانيين على مصر، في مطلع القرن السادس عشر (مرج دابق 1516، والريدانية 1517)، وجوهرها هو "التفوق التكنولوجي العسكري"، ويزيد عبارته هذه بسطا وتوضيحا بقوله: " فلقد كانت المواجهة بين المملوكية والعثمانية لقاءً بين الفرسان والبارود، بعدما فشل الأولون في إدراك القيمة الإستراتيجية للسلاح الجديد الذي كان قد التقطه الآخرون مبكرا" . وعت مصر الحديثة مرارة هذا الدرس وقسوته المُهينة؛ فاهتمت بجيشها اهتمامًا بالغا، منذ عصر محمد علي باشا، الذي جعل من الجيش قلب المشروع النهضويّ الحداثيّ المصريّ النابض، وجعله القاطرة، وكل المؤسسات تابعة له، وفي خدمته، كالطب والهندسة ودُور الصناعة في مجالاتها المختلفة؛ حتى أصبح الجيش المصريّ آنذاك يضارع الجيوش الأوروبية. ونتيجة لذلك كما يرى د.جمال حمدان " أن ميزان القوة بين دائرة مصر ودائرة آسيا الصغرى كاد ينقلب في الاتجاه العكسيّ حين اخترقت مصر محمد علي قلب الأناضول وهددت الآستانة في وقت ما كل أولئك في إطار التبعية الشكليّ ! لقد أصبحت مصر " رجل الإمبراطورية القويّ " في الوقت الذي تحولت فيه الإمبراطورية نفسها إلى "رجل أوروبا المريض" . وبلغ الوعي بأهمية التفوق التكنولوجي العسكري للجيش المصريّ، ذروة مداه مع تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي مقاليد الحكم في مصر؛ فقد أصبح الجيش على يديه في 2020، ضمن أقوى عشرة جيوش على مستوى العالم، وذلك طبقا لموقع " جلوبال فاير باور "، المختص بتصنيف الجيوش عالميا، في أحدث تقرير له صدر هذا العام (2020)، حيث جاء الجيش المصريّ محتلا المركز التاسع عالميا بعد جيوش دول: الولاياتالمتحدةالأمريكية، وروسيا، والصين، والهند، واليابان، وكوريا الجنوبية، وفرنسا، وبريطانيا. وبهذا الترتيب يتجاوز جيش مصر جيوش دول كل من : البرازيل، وألمانيا، وتركيا، وإسرائيل. كما توسعت مصر السيسي في إستراتيجية تنويع مصادر السلاح، فلم يعد الأمر مقصورا على مصدر واحد، هو الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي تريد أن تضمن تفوقا دائما للجيش الإسرائيليّ على كل جيوش الشرق الأوسط، والمنطقة العربية مجتمعة؛ لم تعد أمريكا المصدر الوحيد للتسليح، بل امتدت يد التعاون وإبرام الصفقات إلى كل من روسيا وفرنسا وألمانيا والصين، وكوريا. وإدراكا لقوة هذا الجيش وجديته؛ تحرك قلب العالم عندما وقف الرئيس عبد الفتاح السيسي، صباح السبت 20 يونيو 2020؛ مطالبا بعض قواد جيشه بالاستعداد لتنفيذ المهام التي قد توكل إليهم، في داخل مصر أو خارجها؛ وهي رسالة تحذيرية بالغة الصرامة للرئيس التركيّ المقامر "أردوغان" ومرتزقته من فلول الإخوان الممزقة والدواعش والقاعدة، من محاولة فرض حل عسكريّ في ليبيا، وتهديد الأمن القوميّ المصريّ، قائلا له في حزم وحسم: "سرت والجفرة بالنسبة إلينا خط أحمر" . فمنطقة "سرت" هي بيت القصيد ومربط الفرس بالنسبة لأردوغان؛ لأنها تحوي معظم الثروة الليبية من النفط والغاز، الذي يمد إليه المستعمر التركيّ عينيه ويسيل له لعابه ومعه الدماء الليبية الزكية. ولكن هيهات، فأحلام المستعمر القديم بالتوسع في شمال إفريقيا والمنطقة العربية والاستيلاء على ثرواتها؛ كل هذه الأحلام والأوهام ستغدو سرابا، وتتحطم على صخرة الجيش المصريّ العتيد، بعد تفوقه التكنولوجيّ الهائل، الذي هو عليه الآن. وهذا أهم درس تعلمته مصر على مدى تاريخها الطويل، الممتد من أحمس حتى عبد الفتاح السيسي، وهو أن الجيش هو حامي استقلالها، وحافظ ثرواتها، وضامن امتلاكها لزمام القيادة والزعامة في محيطها العربيّ والإقليميّ، ومرجح كفة ميزانها في الصراع الإستراتيجيّ والحضاريّ، " فقديما كما يقول الدكتور جمال حمدان لم يتغلب الهكسوس إلا بالحصان والعربة، بينما تغلب الأتراك في العصور الوسطى لتخلف فروسية المماليك وقصورها أمام بارود البندقية. في حين عجز الأتراك والمماليك فيما بعد ببنادقهم أمام مدفعية نابليون. والواقع كما يستنتج د.جمال حمدان أيضا أن التخلف التكنولوجي يرقى عمليا في بعض الحالات إلى أن الاستعمار سلّم مصر لبعضه البعض حتى لكأنما هو تداعي أو توارث الاستعمار، وذلك كما فعل المماليك للأتراك، وربما كذلك الأتراك للإنجليز، ومثلما فعل اليونان قديما للرومان .ومهما يكن فالدرس الواضح هو أن مصر أكثر من أي بلد آخر ربما لا تملك أن تتخلف عن العصر تكنولوجيا، أو تدفع الثمن باهظا." .