غدا الثلاثاء يوافق عيد الميلاد المجيد الذى تحتفل به مصر كلها «مسيحيين ومسلمين» فالكل أقباط من أهل مصر . عيد مبارك بالسلام والأمن لوطن كان مهبطًا للأديان وفيه طلب الجميع الأمان وذكر القرآن هذا البلد عندما جاء فى آياته الكريمة فى سورة يوسف «فلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ» (99). تلك كانت كلمات القرآن وكذلك تعاليم الكتاب المقدس الذى أمر السيدة العذراء وابنها المسيح بالهروب إلى مصر عندما تعرضت للخطر: «خذ الصبى وأمه واهرب إلى مصر، وكن هناك حتى أقول لك، لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبى ليهلكه، فقام وأخذ الصبى وأمه ليلا وانصرف إلى مصر، وكان هناك إلى وفاة هيرودس».. بهذه الكلمات تحدث الإنجيل عن رحلة السيد المسيح والسيدة مريم العذراء إلى مصر وفقا لمخطوطة « الميمر» (وهى كلمة سيريانية تعنى السيرة). وتؤكد الحقائق الدينية والتاريخية أن اختيار الله لمصر بأن تكون موطنا ثانيا للسيد المسيح فى طفولته، هو استكمال لمباركته السابقة واللاحقة لها، فلقد تباركت أرض مصر منذ قديم الزمان بمجىء الرسل والأنبياء والقديسين إليها، ومنهم النبى إدريس، وأبو الأنبياء إبراهيم، ويوسف الصديق، ونبى الله يعقوب ومعه الاثنا عشر سبطا، وعلى أرضها ولد موسى نبى اليهودية، ثم جاءتها العائلة المقدسة .فى رحلتها التى امتدت من أرض فلسطين إلى مصرعامين وستة أشهر وعشرة أيام وشملت ثلاثة مواقع فى شمال سيناء، وثمانية عشر موقعًا فى وادى النيل ودلتاه، وزارت وادى النطرون فى الصحراء الغربية، وجبل الطير فى الصحراء الشرقية، وعبرت المجرى الرئيسى لنهر النيل أربع مرات . فى هذه المدة كان جنود ورجال هيرودس يطاردونها للنيل من الصبى (المسيح ) ولهذا السبب كانت العائلة المقدسة تغير مكان إقامتها فى مصر شمالا وجنوبًا، وشرقًا وغربًا. بداية الرحلة أمر الله العذراء بأن تهرب بوليدها من بطش هيرودس وتتجه لمصروقتها كان هناك ثلاثة طرق تجارية وحربية معروفة يمكن أن يسلكها المسافر فى ذاك الوقت، ولكن السيدة مريم ورفاق الرحلة قرروا تجنب الطرق المعروفة واختارت طرقا مجهولة، وبدأت الرحلة التى انقسمت إلى ثلاث مراحل. شملت الأولى العريش والفرما وتل بسطا ومسطرد وبلبيس وسمنود وسخا ووادى النطرون . ويحكى خبراء التاريخ والأباء الكهنة قصصا عديدة لتلك الرحلة التى بدأت من رفح ثم العريش ثم الفرما، وكانت محطة العائلة المقدسة الأخيرة فى سيناء حيث الأرض المباركة والروحانيات والتعبد الروحانى . ولكن لم تمكث العائلة كثيرا بسبب مطاردات جنود هيرودس . ثم اتجهت للقنطرة ومنها إلى الإسماعيلية حيث تفجر نبع ماء ثم اتجهوا غربا لوادى الطميلات، ووصلوا إلى مدينة هيرون بوليس قرب أبوصير « ثم القصاصين ثم لقنتير (بر رمسيس القديمة حيث أمضوا بها ثلاثة أيام، وغادروها لصفط الحنا لليلة واحدة فى ضيافة أحد المواطنين. الاتجاه للداخل من القنطرة إلى تل بسطا (بالقرب من الزقازيق) انطلقت الرحلة مرة جديدة وبسطا هى النطق الهيروغليفى لكلمة «باستت» ومعناها بيت الإله «باستت»، حيث دمرت تماثيلها ونبع بئر ماء بها بعد رفض أهلها إعطاء ماء للعذراء، فرسم المسيح بيده على الأرض فنبع البئر وبنيت هناك كنيسة ثم اتجهوا لبلبيس حيث استراحوا تحت شجرة جميز ظل الناس يحجون إليها حتى عام 1850. وتروى الكتب أنه أثناء وجود العائلة المقدسة بتل بسطا مر عليهم شخص يدعى (قلوم) دعاهم إلى منزله حيث أكرم ضيافتهم وعند وصولهم لمنزله تأسف للسيدة العذراء مريم لأن زوجته مريضة وتلازم الفراش منذ سنوات، هنا قال المسيح لقلوم «الآن امرأتك سارة لن تكون بعد مريضة وفى الحال قامت سارة متجهة ناحية الباب مرحبة بالطفل وأمه، وطالبتهم بالبقاء لفترة أطول لأن البركة حلت بمنزلها مع وجود الصبى» لكن البقاء كان مستحيلًا. حتى وصلوا إلى محافظة الغربية حيث مدينة سمنود واستراحوا بها تحت شجرة جميز بنى مكانها كنيسة للعذراء والشهيد أبانوب فى القرن الرابع الميلادى، وبها بئر ماء بجوارها ماجور قيل إن العذراء عجنت فيه الخبز، ثم كنيسة باسم القديس أبانوب البهنسى يحج إليها سنويا 31 يوليو احتفالا بمولده،ثم اتجهوا لقرية سخا وبنى مكانها كنيسة يحج لها الزوار سنويا يوم 22مايو. لتعبر العائلة النيل إلى دسوق ثم إلى سخا وفيها شعرت العائلة المقدسة بالعطش ولم تجد ماء. وكان هناك حجر عبارة عن قاعدة عمود أوقفت العذراء ابنها الحبيب عليه فغاص فى الحجر مشطا قدميه فانطبع أثرهما عليه. ونبع من الحجر ماء ارتوى منه الجميع وكانت المنطقة تعرف باسم «بيخا إيسوس» ومعناه كعب المسيح ليتجهوا جنوبًا لمحافظة البحيرة، حتى وصلوا طرانة قرب الخطاطبة ثم وادى النطرون فى منطقة «برية شيهيت «المهد الأول للرهبانية فى العالم حيث أقيم به 500دير تبقى منهم أربعة هى القديس أبو مقار والأنبا بيشوى والسريان والبراموس. الرهبنة إهداء مصرى وهنا يجدر بنا القول إن الرهبنة هى اهداء مصرى فبعد أن دخل مرقص الرسول مصر عام 43 م، وأسس أول مدرسة لاهوتية مسيحية بالإسكندرية، قدمت مصر الرهبنة هدية منها إلى العالم المسيحي، فالرهبنة تقليد مصرى أصيل حيث يعد الأنبا أنطونيوس المصرى الجنسية «أبو الرهبنة فى العالم» وبعدها انتقلت الرهبنة من مصر إلى فلسطين وبلاد ما بين النهرين وسوريا وإيطاليا وفرنسا وآسيا الوسطى واليونان ثم العالم أجمع، وبعد عدة قرون من الزمان كانت مصر مقرا للفتح الاسلامى عام 642 م فكان الأمان للديار والأملاك ودور العبادة وكفل حرية العقيدة وحرمة الدين. المرحلة الثانية للرحلة استمرت رحلة العائلة المقدسة التى ضمت السيدة العذراء والمسيح ويوسف النجار وسالومى «بحسب التاريخ» ليعبروا النيل جنوبًا.. حتى القناطر الخيرية. ثم إلى أون (هليوبوليس) المطرية وعين شمس التى كانت قديما مركزا ضخما لعبادة الإله رع إله الشمس عند المصريين وكان يسكنها ألفان من اليهود وعنها يقول العالم الفرنسى «آميلينو» إن اسم المطرية لم يذكر «بالسنكسار» وهو كتاب القديسين الخاص بالكنيسة الا بسبب تلك الرحلة وكذلك فى مسطرد أو (المحمة) ومعناها مكان الاستحمام حيث وصلت العائلة إلى مكان قفر، وأقامت فيه تحت شجرة جميز وهناك شهدت معجزة حيث أخذ المسيح العصا التى كان يتوكأ عليها يوسف النجار وكسرها قطعا، وغرسها ووضع يده فى الأرض فنبع الماء وخرج نبات البلسان الذى يستخرج منه زيت البلسم ذو الرائحة الزكية والتى تستخدم خلاصة البلسم فى إعداد زيت «الميرون المقدس» الذى يستخدم فى الكنائس حتى اليوم. ومازالت بقايا البئر والشجرة وهناك داخل متحف مفتوح باسم متحف شجرة مريم، وهناك توجد بقايا الشجرة وعليها أسماء لجنود الحملة الفرنسية الذين سجلوها بعد شفائهم من مرض الرمد الصديدى، عقب غسل وجوههم من ماء البئر، وكذلك يوجد المذود الذى غسلت فيه السيد المسيح. ومن المعروف أن شجرة العذراء مريم الأصلية التى استراحت عندها العائلة المقدسة قد أدركها الوهن والضعف فسقطت عام 1656م وقام بجمع فروعها وأغصانها جماعة من كهنة الآباء الفرنسيسكان والشجرة الموجودة الآن نبتت مكانها من جذور الشجرة الأولى. أما الكنيسة الحالية المقامة على نفس المكان وتسمى كنيسة السيدة العذراء بمسطرد فيزورها مئات آلاف من الزوار للتبرك والاحتفال بهذه المناسبة، وقد رجعت العائله المقدسة إلى هذا المكان مرة أخرى فى طريق عودتها إلى الأراضى المقدسة. ومن مسطرد اتجهت العائلة إلى باب زويلة ثم إلى أبواب بابليون (مصر القديمة) حيث كنيسة أبى سرجة الأثرية حيث سكنت العائلة فى المغارة لأيام قليلة ثم ركبت مركبا نيليا للمعادى والتى أطلق عليها هذا الاسم لأنه المكان الذى عبرت (عدت ) منه العائلة المقدسة إلى النيل فى رحلتها إلى الصعيد. وما زال السلم الحجرى الذى نزلت عليه العائلة المقدسة إلى ضفة النيل موجودًا وله مزار يفتح من فناء كنيسة العذراء. المرحلة الثالثة وبيت لحم الثانى بدأت هذا المرحلة بركوب المركب للوجه القبلى، حيث بدأوا بمدينة منف ثم البهنسا وبها دير الجرنوس وكنيسة مريم وبها بئر عميق يقول التقليد الكنسى إن العائلة المقدسة شربت منه أثناء رحلتها، ثم إلى جبل الطير حيث أسس دير العذراء بجوار جبل الكف وهى كنيسة نحتت فى الصخر، ويقام هناك احتفال يحضره الآلاف، وهناك حدثت معجزة حيث منع المسيح صخرة كانت ستسقط من هذا الجبل فانطبع كفه على الصخرة وصار يعرف باسم (جبل الكف)، كما يوجد بالمنطقة شجرة يطلق عليها اسم شجرة العابد. ومن الأشمونين إلى ديروط بأسيوط فالقوصية فدير المحرق عند جبل قسقام كانت أهم محطات العائلة، حيث قضوا بها ستة أشهر وعشرة أيام وأسسوا أول كنيسة فى مصر والعالم، وبه الآن دير العذراء وبقايا الكنيسة الأثرية ولذلك أطلق عليه بيت لحم الثانى، وأصبحت القاعة التى أقامت فيها العائلة المقدسة مدتها هى نفس الهيكل الذى تُقام فيه القداسات والصلوات بكنيسة العذراء فى الدير. ثم انتهت الرحلة فى جبل درنكة وبه مغارة منحوتة فى الجبل أقامت العائلة المقدسة بداخلها ويعتبر دير درنكة هو آخر المحطات التى احتمت بها العائلة المقدسة فى رحلتها فى مصر . ويعتبر الدير من المعالم السياحية الهامة فى مصر حيث يقصده الآلاف من الزائرين أجانب ومصريين على مدار السنة ليتعرفوا على المكان الذى «انتهت إليه مسيرة العائلة المقدسة»، وقد بدأ دير العذراء بدرنكة نشاطه منذ انتشار المسيحية فى مصر، ولما بدأت حركة الرهبانية فى القرن الرابع قامت بهذه المنطقة أديرة كثيرة للرهبان والراهبات، ومن أشهر الذين عاشوا فى هذه المنطقة القديس الراهب يوحنا الأسيوطى . ويقع دير العذراء بالجبل الغربى لمدينة أسيوط على ارتفاع مائة متر من سطح الأرض الزراعية، ويبعد عن المدينة )أسيوط( بمسافة 8 كم تقطعها السيارة فى مدة ربع ساعة وللذهاب إلى الدير يعبر الزائر بمدينة أسيوط غربًا حتى يرى نفسه فى مواجهة جبل أسيوط ويتجه جنوبًا لمسافة ثلاثة كيلو مترات حيث بلدة درنكة ومنها يسير لمسافة ثلاثة كيلو مترات أخرى إلى قرية درنكة ثم يتجه نحو الطريق الصاعد إلى الجبل مسافة كيلو مترً وفى نهايته يصل الزائر إلى أبواب الدير، وتعتبر الغرفة أو المغارة التى سكنتها العائلة المقدسة هى أول كنيسة فى مصر بل فى العالم كله. رحلة العودة رحلة العودة قررها رب العالمين للعائلة المقدسة ويشاء الله أن يموت هيرودس قبل أن يتمكن من بلوغ مأربه الخبيث، ويأذن الله بعودة العائلة المقدسة إلى ديارها آمنة مطمئنة، وليفتح العالم صفحته الثانية من صفحات العقائد السماوية الثلاث. لتعود العائلة من القوصية للمعادى بالنيل ثم لحصن بابليون حيث كهف أسفل كنيسة أبو سرجة، ثم شمالا لمسطرد ثم لبلبيس ثم القنطرة ثم لفلسطين مرورا بغزة وأخيرا استقروا فى الناصرة، لتشهد كل تلك الأماكن كنائس وأديرة تحكى رحلة عظيمة وتعاليم تنادى بالسماحة والسلام تدق مع أجراس الكنائس وتعانقها صوت الأذان فى صورة تجدها فقط فى مصر أرض الأديان وأرض السلام والمحبة.